الغيهب ..بقلم.. حمادة الشاعر
أثناء عودتي من المدينة عرجت على أحد المحلات التى تبيع مستلزمات الزراعة ، وقفت على الباب مترددًا ، ناداني البائع لقدري المحتوم تفضل يا أستاذ ، تعلثمت عند…عندى فئران في المزرعة، أريد سمًا فتاكًا.
ابتسم البائع سأعطيك سمًا يقضي على وحش ، كانت أنفاسى تتلاحق ، يداى تقبض بإحكام على كيس السم ، والدنيا تتقازم أمام عينيّ؟، على ناصية الشارع عند سور النادي يقبع محل الحلويات الشهير ، حانت منى التفاتة لصينية البسبوسة ، لم تزل حلواي المفضلة ، أشرت إليه بكليو جرام ، أردت أن تكون هي آخر العهد .
عدت للمنزل :تلاشت قدرتي على النطق، نظرت طويلًا لانعطاف النهر أمام منزلنا ، تلمست شجرة الكافور العتيقة، أشتم منها أريج الطفولة ، دلفت للبيت ، أمى تتشح بالسواد ،عجوز أرهقها الحزن ، أغلقت غرفتي بإحكام، النهار مثلي ينشد الرحيل ، سئم الكوكب العابس . فتحت علبة البسبوسة بروية ، أتناول في بطء ،كم تمنيت أن يتوقف الزمن عند هذه اللحظة السكرية ، القادم غيهب .
أحضرت أكبر كأس زجاجي في مطبخنا ، ملأته بالماء البارد، لي ذوق حتى في لحظات الرحيل ، بدأت أضع السم في الكأس ، أقلب بالملعقة، يدور الماء في الكأس ، أدور حول بيتنا ، ضحكاتي تملأ الفضاء .
يهدأ دوران الماء
أستلقي على ظهري من شدة الضحك في باحة المدرسة ،عندما يحكي لي
” وليد “مقالبه مع أخواته البنات .
توقف الماء على الدوران
على عتبة الجامعة أحمل شهادتي في يدي ، ينوء ظهري بأحزاني القديمة .
فاحت رائحة السم ، رحت أدور حول الكأس ،تزكم الرائحة النتنة أنفي ، هل أفعلها ؟
أهذه نهاية الليل السرمدي؟
أستانف الدروان ، في طقس قديم ، تمتد يدى ثم ترتد ، اشتد الظلام. لم أتبين سوى وجه أمي تعافر لتشعل أناملها ، يشتد الصخب، تتعالى الأصوات، لا أميز إلا صوت أمي : “حمودي” تعالى .
كأن العالم لم يعد سوى أمي .
غافلتني نفسي، في لجة تدفق الرؤى ، لم أنتبه إلا والكأس فارغة في يدي ، هل حقا شربتها ؟ أم اندلقت على الأرض .
رائحة عفنة تنبعث من فمي ، مرارة أشد من مرارة الأيام تجتاح حلقي .
تكومت جوار السرير ، أرنو لليل القادم ، بدأ الزبد الأسود يخرج من فمي، كبحر يتقيأ ، فجأة انكسر الباب ، كانت أمي.
كيف عرفت ؟
كيف جاءت ؟
لا تسأل ، نقلت للمشفى على عجل ، تم إسعافي .
فشلت محاولة الإبحار
فشلت محاولة استكشاف العالم الآخر ، لن أصبح ” ماجلان ” الجديد.
لست أدري لماذا ترتسم تلك الصور من الماضي بعد نيف وعشرين سنة . أجلس على السرير ، تنام بين أناملي شفرة حادة ، يغازلني الغيهب ، تدعوني الأطياف ، صورة أب لم أره ، وأخوة،استأصلهم فيروس الكبد مبكرًا، أرى مظاهرة حب في الغيهب تدعوني للحضور .
طالمًا تمنيت موتًا يليق بشاعر :
” علو في الحياة وفي الممات ، حقا أنت إحدى المعجزات “
أريد السفر ، أخشى أن تفوتني الطائرة الأخيرة إلى الغيهب .
يجتر التاريخ ذاته ، تلامس الشفرة وريدي في حنو ، لمسة عاشق محب ، يتدفق السائل الأحمر ، تصبح الأرض كالمريخ .
تسكر الأرض بهذه الخمر المعتّقة قرابة خمس عقود .
كانت أمي تعافر في الغيهب ، تصرخ “حمودى ” لا، لا ، تلطم خدها، تحاول الإفلات من جاذبية الغيهب ، مع حلول الجفاف داخلي ، كانت دقات قلبي مثل ساعة عجوز ، أمي تترنح ، كادت تسقط ، فرت روحي من جسدي الواهن عانقت أمي
التعليقات مغلقة.