السَّمَكَة في الحَبَكَة .بقلم.ربيع دهام
“وَجَب قطع رأس السَّمكة وذيلها قبل وضعها في المقلاة “،
قالت أمُّ سجيع لأمِّ ربيع.
ولمَّا سألتها أمُّ ربيع عن السبب، أجابتها أمُّ سجيع:
“نحنُ هُنا في الحَبَكَة، نفعل هذا بالسَّمكَة”.
قطعتْ أمُّ ربيع رأس وذيل السَّمكة، باعتبار أن الجميع هنا يفعل هذا، ثم
أرْدَتْها في المقلاة مقطَّـعة الأوصال.
أدارت موَّلد الإشعال. كشَّرتْ عين فرنِ الغازِ عن نيرانها، فكشَّرت أمُّ سجيع عن أسنانِها: ” طقوسُ البترِ مُقدَّسَة”.
ولمَّا دقَّ الليلُ أبوابَ البيت، وتسمَّر القمرُ المتطفِّلُ خلفَ النافذة، خرجت أم ربيع من منزل أختِها أم سجيع متوجِّهة إلى بيت صديقتها أم نَوفل.
“ما سرُّ السَّمكة في ضيعة الحبكة؟”، سألت أمُّ ربيعٍ أمَّ نَوفل.
أجابتها أم نَوفل بكلِّ ثقةٍ: ” هذه طقوسٌ مقدَّسة أورثها أجدادُ أجدادِنا لأجدادِنا، وأجدادُنا لآبائنا، وآباؤنا لنا. ولا يجوز المسُّ بها إطلاقاً”.
“إطلاقاً؟!”، قالت أم ربيع في نفسها. ولأنَّها لم تقتنع أبداً بالإجابة، سألتها بنفاذ صبرٍ: “ما السَّبب؟”.
أدارت أم نَوفل ظهرها ودخلت غرفتها دون أن تجيب.
وفي صباح النهار التالي، خرجت أمُّ ربيع إلى السوق للتبضُّع. أو بالأحرى للاستفسار عن سرِّ السَّمكة.
سألت أول بائع صحفٍ صادفته: ” أأنت من الحبكَة؟”.
“نعم”، أجابها البائع.
“أتحبَّ السَّمكة؟”.
“عفواً؟”.
“أقصد أتحبَّ السَّمك المقلي؟”.
“نعم”، قال بارتباك ظاهر قبل أن يسألها: “أأنت صحفيَّة؟”.
ارتبكت هي بدورها، ثم أجابت بتردُّد: “نـ نـ نعم. أتحبُّ مذاق رأس السَّمكة؟”.
وما إن أطلقت من فمها تلك الأحرف حتى استشاط البائعُ غضباً،
كأنَّ سنانَ الحروفِ انقضَّت على قلبه كالسكاكين.
بعنفٍ هزّ الجريدة التي بين يديه، وبسرعةٍ هرَّت منها خمسة أحرفٍ،
فتناثرت على الأرض وكَرَجَت.
حاول التقاط الحروفِ لكنها، وبسبب الطريق المائل، تدحرجت إلى الأسفل حتى ارتطمت بحافَّة الرصيف، فشكَّلت مع الأربعة أحرفٍ الأخرى، المنفلتة من غمدِها، كلمةَ “كافرة”.
“كافرة!”، صرخ البائع بوجهِها.
“ماذا فعلتُ أنا لتقول لي هذا؟”، سألَتْهُ بدهشةٍ.
” وكيف تتجرَّئين وتسألينني إذا كنتُ قد أكلتُ رأس السَّمكة؟ ألا تدرين أنَّ على السَّمكة أن تكون بلا رأسٍ وبلا ذيلٍ قبل أن توضع في المقلاة؟”.
أصاب أم ربيع توتُّرٌ شديد فصرخت بالبائع: ” أعرف. لكن لا أحد منكم يقول لي لماذا!”.
” وتسألين لماذا؟ هكذا أراد منّا القادِر وكفى!”.
أدارت أمُّ ربيع محرِّك آمالها الخائبة وطفقت تبحث عن بائعٍ آخر.
اقتربت من متجر للتحف. سألت الرجل الذي خلف الكاونتر:
” عفواً. أيوجد مطعم يقدِّم حساء السَّمك هنا؟”.
“نعم”، أجاب الرجل. “لديَّ تماثيل جميلة. ما رأيك لو ألقيت نظرة عليها”، سألها.
ولمّا فعلت ذلك، وألقت نظرة على التماثيل المركونة على الرفوف، شدّها من عنقِها تمثالٌ خشبي لسمكة.
ولم يكن هذا بغريبٍ. فمعظم متاجر التحف عادةً ما تكون مليئة بتماثيل الحيوانات والأسماك.
لكن الغريب في الأمرِ هو أن السَّمكة الخشبيَّة التي لفتتها كانت بلا رأس وبلا ذيل.
سألت التاجر: ” لماذا السَّمكة تلك لا رأس لها ولا ذيل؟”.
أماط التاجر اللثامَ عن عبسةٍ يكاد يهرُّ أمامها، كحبَّاتِ التوتِ، سورُ الصين العظيم.
“كيف تتجرَّئين وتسألين سؤالاً كهذا؟ ألستِ أنتِ من الحبكة؟!!”، زجرها.
“أختي تزوجّت منذ سنتين رجلاً من ضيعتكم”، قالت له، “و…..”
بتَر حديثها مثلما يُبترُ في الحبَكَة، رأسُ السَّمكة وذيلُها:
“إذاً قولي لأختك أن تعلِّمك جيداً أصول الإيمان”.
شَكَرَتْهُ بِلؤمٍ. أدارتْ له ظهرَها ورحلتْ.
وبعد ذلك سألتْ هذا وذاك. وهذه وتلك. وكان الجواب الدائم: ” طقوسٌ مُنزَلَة وعاداتٌ مُقدَّسة أورثَها جيلٌ لجيلْ”.
ومرّت الأيامُ، والشهور والسنين، وشاب شعرُ أمُّ ربيع، وحنى ظهرها، وما شابَ أبداً فضولها في معرفة سرَّ السّمكة.
ومرّت أيامٌ أُخَر، وشهورٌ وسنين، ومضت أمُّ ربيع إلى مثواها الأخير دون أن تعرف السرَّ. السرُّ الذي لم يكن ليكترث بمعرفتِه أحد.
وذات يوم، قربَ قبرِ المرحومة، جلس كهلٌ وشاب.
الأول فلاّحٌ والثاني طالبٌ جامعي يدرس الفيزياء.
قال الطالبُ للكهل الفلاّح: ” ما رأيك في أكلةِ سمكٍ شهيَّة.
اشتريتُ السَّمك البارحة. قطعتُ رؤوسها وذيولها. وهي في الثلاّجة تنتظر قدومنا بفارغ الصبر”.
ضحك الفلاّحُ وقال: ” ولماذا قطعتَ رؤوسَها وذيولها؟”.
أجابه الطالبُ: ” هي طقوس الإيمان المقدَّسة”.
استجمع الكهلُ أنفاسه ثم قال: ” في زمنٍ قديم مضى، وبسبب فقره الشديد، اضطرَّ رجلٌ ما أن يقطع رأسَ وذيل السَّمكة لأن مقلاته الصغيرة كانت أقصر قطراً من طول السَّمكة. ولأن لا مال لديه لشراء مقلاة أكبر حجماً”.
صفنَ طالب الفيزياء. فيما أكمل الكهلُ حديثَه:
” ومثل الرجل الفقير، فعلت ابنته لمّا اعتقدت أنهّا عادة ضرورية. ومثل ابنته فعلَ ابن جارها، لمّا اعتقد أنها عادة ملزِمة. ومثل ابن جارها فعلَ حفيدُته، لمّا اعتقدت أنها تقليدٌ.
ومرّت الأيام والسنين، وصارت العادات تقاليدٌ، وصارت التقاليدُ مقدّسات”.
المهم في الأمر أنه بعدما سمع طالب الفيزياء حديثَ الكهل، لم يترك عادة قطع رأس وذيل السَّمكة. بل أكمل الطقوسُ المقدّسة، وكأن حديث الفلاّح الكهلِ لم يكُن.
وسمعتْ أمُّ ربيعٍ في قبرِها، حديثَ الكهلِ، وفهمتْ، ولم يسمع، ولم يسمعْ، حتى طالب الفيزياء ذاك.
التعليقات مغلقة.