قصة ( إيڤلين ساموريس Yveline Samoris) للأديب الفرنسي الراحل جى دى موباسان Guy de Maupassantترجمة من الفرنسية بقلم: عاشور زكي وهبة
قصة ( إيڤلين ساموريس Yveline Samoris) للأديب الفرنسي الراحل جى دى موباسان Guy de Maupassant
ترجمة من الفرنسية بقلم: عاشور زكي وهبة
الكونتيسة ساموريس.
هل هي السيدة التي ترتدي ثوبًا أسودَ هناك؟
نعم، هي نفسها، إنها ترتديه حدادًا على ابنتها التي قتلتها.
رويدًا! ما هي القصة إذن؟!
قصة بسيطة جدًا، دون جريمة ولا عنف.
كيف حدث ذلك؟!
لا شيء تقريبًا. يُقال أن كثيرًا من العاهرات يولدن ليكُنَّ سيداتٍ شريفاتٍ؛ في حين أن كثيرًا من النساء العفيفات يُوصمنَّ بالعهر والفجور. أليس كذلك؟!
وهكذا فإن مدام ساموريس وُلِدَتْ عاهرة؛ ولديها ابنةٌ وُلِدَت شريفةً عفيفةً.
هذا كلّ ما في الأمر.
لم أفهمْ.
سأشرح لحضرتك الموضوع! الكونتيسة ساموريس إحدى الأجنبيّات ذوات البريق المخادع اللاتي تسقطن كالمطر بالمئات كلّ سنة على باريس. هي كونتيسة مجريّة أوإفلاقيّة(1)، أو مجهولة الأصل.
ظهرت ذات شتاء في إحدى الشقق الكائنة في حي الشانزليزيه.. حي المغامرين، وفتحت قاعة استقبالها لكلّ شارد ووارد.
هل سألتني حضرتك لم ذهبتَ إلى هذا المكان؟
لم أكن أعلم عنه شيئا كثيرًا. ذهبتُ إليه مثل كلّ من يرتاد هذه الشقّة؛ لأننا كنا نلعب هناك، والنسوة خفيفات والرجال لئام.
تعلم حضرتك هذا العالم من النصّابين ذوي الزخارف المتعددة، الكلّ نبلاء، الكلّ له اسمه ومكانته، الكلّ مجهولون للسفارات، باستثناء الجواسيس.
الكلّ يتحدّث عن الشرف دون سبب معقول، يذكرون أجدادهم القدماء، يقصّون حياتهم: متشدّقون، كذّابون، مخادعون، ذوو بأس كأوراق لعبهم، غشّاشون كألقابهم، نخبة الجحيم في الآخرة.
إنني أعشقُ هؤلاء القوم، إنهم مثيرو الاهتمام للتغلغل والاختراق، مشوقون للتعرف عليهم، ممتعون عند سماعهم، تجدهم دوما مرهفي العقل لُطفاء غير مبتذلين كحال الموظفين العموميين.
أمّا نساؤهم، تراهُنّ دومًا جميلات، لديهنّ نكهةٌ ذات غنجٍ غريب يُخفي لغز حياتهن الماضيّة – ربما قضينّ نصف أعمارهنّ – داخل الإصلاحيّات.
يمتلكن عمومًا عيونًا بهيّةً وشعرًا عجيبًا؛ لذا أعشقهنّ أيضًا.
مدام ساموريس رمز للمغامِرات الأنيقات الناضجات اللاتي ما زلن تتمتعنّ بالجمال والفتنة والرشاقة؛ لكن يحسّ المرء منّا بأنها فاسدةٌ حتى النخاع.
لقد كُنّا نستمتع عندها، نلعب ونرقص ونتعشّى هناك.. باختصار كنا نفعل هناك كلّ ما تُشكّله ملذات الحياة المدنيّة…
وكان لديها ابنةٌ طويلةٌ ذاتُ طلعة بهيّة، تراها دومًا مَرِحةً بشوشةً، جاهزةً للحفلات، ضاحكةً بملء شدقيها، ترقص برعونة واندفاع، كانت ابنةً لمغامِرةٍ بحقّ.
لكنها كانت بريئة جاهلة ساذجة، لم تكن ترى شيئًا، ولا تعلم شيئًا، ولا تعي شيئًا مما كان يحدث في بيت الوالد.
كيف عرفت حضرتك إذن؟!
كيف عرفت أنا ذلك؟ إنّ لهذا قصة أكثر غرابة من كلّ ما سبق.
ذات صباح، دقّ جرس باب منزلي، وجاء البوّاب يخبرني أن السيد جوزيف بونينتال يطلب الحديث معي. فقلت له في الحال:
مَن يكون هذا السيد؟
ردّ الخادم:
لا أعرف كثيرًا يا سيدي، ربما يكون أجيرًا.
ولقد كان بالفعل خادمًا يريد الالتحاق بالعمل عندي.
سألته:
أين كنت تعمل قبل مجيئك؟
من عند السيدة كونتيسة ساموريس.
أه.. لكن منزلي لا يشبه مسكنها في شيءٍ.
أعرف هذا جيدًا يا سيدي، ولهذا السبب أودّ العمل عند حضرتك، هنا يوجد قدر كافٍ من الناس، يمرون ولا يبقون. وكنت بالضبط محتاجًا لرجل. وهذا ما اتطلع إليه ها هنا…
بعد شهر، كانت الأنسة ساموريس قد ماتتْ بشكلٍ غامضٍ. وها هنا تفاصيل هذه المنيّة التي أخبرني بها جوزيف الذي علمها بدوره من صديقته خادمة الكونتيسة:
في مساء إحدى الحفلات الراقصة، كان هناك وافدان جديدان يتحدثان خلف أحد الأبواب.
كانت الأنسة إيڤلين قد انتهت توًّا من الرقص، وتستند على هذا الباب لتتنسّمَ قليلا من الهواء؛ لم يرياها تقترب، وسمعتهما يتحاوران:
لكن مَن يكون والد الفتاة الصغيرة؟
روسيٌّ الجنسيّة فيما يبدو، هو الكونت روفالوف الذي لم يعد يرى الأم.
ومَن يكون الأمير الذي يدير المنزل اليوم؟
هذا الأمير الإنجليزيّ الواقف في مواجهة النافذة! إنّه عشيق مدام ساموريس. لكن مدّة عشقها لا تزيد أبدًا عن شهر أو ستة أسابيع على أكثر تقدير.
فضلًا عن ذلك، كما ترى حضرتك، أن موظفي ومستخدمي الأصدقاء كثيرون، والكلُّ مدعوّون، وتقريبًا الكلّ من المُصطَفينَ الأخيارِ! وهذا ما يُكلّف كثيرًا؛ ولكن… كفى!
أين حصلت إذن على لقب «ساموريس»؟!
ربما يكون من الشخص الوحيد الذي أحبته، وهو صيرفيٌّ إسىرائيليٌّ من برلين، كان يُدعى «سامويل موريس».
حسنًا! أشكركَ سيدي! الآن وقد علمتُ؛ فقد أصبحت على بصيرة، وسوف أرحلُ الآن مباشرة!
.
يا لها من عاصفةٍ ثارتْ في لُبّ هذه الفتاة الصغيرة التي يهبُها الجميعُ كلّ الميول الفطريّة لسيدة شريفة!
ويا لخيبة الأمل التي قلبت أوضاع هذه النفس البريئة!
ويا للعذاب الذي سيُوثِقُ هذه الفرحة الدائمة، وهذه الضحكة الساحرة، وهذا الرغد من العيش البهيج الجَذِل الذي كانت تحياه!
وكم كان حجم الصراع الداخلي الذي استسلم له هذا القلب الغضُّ للغاية حتى حانت لحظة خروج المدعوّ الأخير!
وهذا ما لم يكن جوزيف قادرًا على التفوه به.
لكن في نفس الليلة، دخلت إيڤلين فجأة غرفة والدتها التي كانت تتأهب للنوم، وصرفتْ الخادمة التي ظلّت خلف الباب، ثمّ وقفت شاحبةً وقد اتّسعت عيناها، وخاطبت أمّها:
أماه، ها هو ما سمعته عمّا قليل في قاعة الاستقبال…
وحكّت لها حديث الرجلينِ كلمةً كلمةً.
انذهلت الكونتيسة، ولم تكن تعرف بماذا تجيب في البداية؛ ثمّ أنكرتْ كلّ الحكاية انكارًا قاطعًا، واخترعتْ قصّةً، وأقسمتْ مُتَّخِذةً الربَّ شاهدًا وشهيدًا.
انسحبت الشابةُ مُهتاجةً؛ لكنها لم تقتنع، وارتقبتْ مُترصِّدةً.
أتذكرُ تمامًا التغير الغريب الذي كانت تقاسيه وتكابده. فقد كانت دومًا وقورةً حزينةً، تحدّقُ فينا بعينيها الواسعتين كَمَنْ تقرأ أعماق نفوسنا، لم نكن ندرك ما تفكّر فيه؛ تحجّجنا بأنها كانت تبحث عن زوج سواء كان حازمًا أو عابرًا.
ذات مساءٍ، لم يتبقَ لديها أدنى شكٍّ، وفاجأتْ والدتَها، وبهدوءِ رجل أعمالٍ يطرح شروطًا لاتفّاقٍ قالت للأمّ:
ها هو يا أمّاه ما عزمتُ عليه!
سوف نرحل ونبتعد – كلتانا – إلى أيّ مدينةٍ صغيرةٍ أو حتى إلى الأرياف؛ نحيا هناك دون ضجيج كما يحلو لنا، وجواهرك فقط ثروة لنا.
وإذا رأيتي أن تتزوجي أي رجل شريف يكون أفضل. والأفضل من ذلك أن نجد نحن الاثنتين رجلينِ أمينينِ شريفينِ للزواج.
وإذا لم توافقي على هذا؛ فسوف انتحر!
هذه المرّة أرسلتِ الكونتيسة ابنتها لتنام، ودافعتْ عن نفسها بألا تعيد الابنة التفوه بهذا الكلام غير اللائق أبدًا.
ردّت إيڤلين:
سأمنحكِ شهرًا للتفكير، وإذا لم تتغيّر حياتنا خلال هذه المُدّة، سأقتل نفسي، ما دام لم يبقَ أيُ مخرجٍ شريفٍ لحياتي.
وبعدَ شهرٍ، كان الناسُ يرقصون وينتاولون عشاءَهم دومًا داخل نُزُل «ساموريس».
حينئذٍ تحجَّجَتْ إيڤلين بأنها تعاني من ألم في أسنانها، واشترت من الصيدلانيّ القريب بضع قطرات من البنج.
وفي اليوم التالي كرّرَتْ ذلك، وفرّضتْ على نفسها كلّ مرَّة تخرجُ فيها أن تجمعَ جرعاتٍ قليلةً من المُخدّر حتى ملأتْ منه قنينةً.
ذات صباحٍ، وجدوها باردةً على فراشها، وقناعٌ قطنيٌّ يغطي وجهَها.
غطّوا تابوتَها بالزهور، وفرشوا الكنيسةَ باللون الأبيض، وحضرَ جمعٌ غفيرٌ من الناس مراسمَ المأتم المهيب.
وبعد، في الواقع، لو كنتُ أعلمُ – لكنني لم أكن أعرف – ربما كنتُ تزوجتُ هذه الفتاة.
لقد كانت جميلةً جدًّا.
وماذا عن الأمّ، ماذا أصبح حالها؟
آه! لقد بكتْ كثيرًا، ثمّ عادتْ بعد ثمانية أيامٍ فقط تستقبلُ أصدقاءها.
وماذا قيلَ لتفسير سبب الوفاة؟
كان هناكَ حديثٌ عن موقد مُطَوَّر تعطّلتْ آليته. وقد سبّبت الحوادث التي نجمت عن هذه الأجهزة الكثير من اللغط في الماضي؛ لكن لم يكن هناك شيء غير محتمل في هذا .
.
تمّت الترجمة بحمد الله
الاثنين الموافق 2023/9/18
(1) إفلاقية أو أليغاشية: واحدة من الإفلاق، شعب يعيش في جنوب رومانيا الحالية.
التعليقات مغلقة.