القدوة لا تموت …
بقلم عصام فاروق
تحل اليوم ذكرى رحيل أستاذي وزوج خالتي صلاح الدين حافظ، القامة الصحفية الكبرى نقابيًّا وأدبيًّا، والمدافع الأقوى عن حرية الصحافة.
عمل أستاذنا مشرفًا على “الأهرام الدولي” ورئيسًا لتحرير الطبعة العربية منها حتى 2001، كما شغل موقع رئاسة التحرير بمجلة “دراسات إعلامية”.
عمل مديرًا لتحرير جريدة الراية القطرية 1981- 1984، ومحاضرًا كأستاذ بجامعة قطر 1984- 1985، وبكلية الإعلام جامعة القاهرة 1987، كما ساهم في تسعينيات القرن الماضي بتأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
شغل أستاذنا أيضًا موقع الأمين العام لنقابة الصحفيين المصريين في الفترة من 1968-1971، ثم من 1973-1977، الأولى منها لم يكن قد أتم فيها عامه الثلاثين، فكان بذلك أصغر أمين عام لنقابة الصحفيين في تاريخها.
شغل موقع الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب في عام 1976 لمدة عام واحد، ثم تولّى نفس الموقع بعد عودة الاتحاد من بغداد إلى القاهرة في العام 1996 وحتى وفاته.
وقد نُشر مقال في جريدة “اليوم السابع” صباح اليوم التالي لرحيل الأستاذ صلاح الدين حافظ ١٧ نوفمبر ٢٠٠٨، تحت عنوان “ذكرياتي مع صلاح الدين حافظ” بقلم أحد تلاميذه، ولأنني وجدت أن المقال يعبّر عن جيلٍ عاصره وتتلمذ على يديه، آثرت أن أعيد نشره اليوم ليعلم أبناء هذا الجيل من هو صلاح الدين حافظ، وإليكم المقال: “لم أصدّق أن صلاح الدين حافظ قد رحل، وهو الذي علّمنا التحدي.. حتى في الموت، “حرصك على الموت يهب لك الحياة”، هكذا كانت كلمته التي كان يوصينا بها، في بداية التحاقنا ببلاط صاحبة الجلالة، عندما احتضننا صلاح الدين حافظ أنا ومجموعة من زملائي سنة 1999 للعمل في الطبعة الدولية للأهرام، التي كان -رحمه الله- مشرفاً عليها.
إن صلاح الدين حافظ الإنسان أبقى من صلاح الدين حافظ الكاتب المعروف، الذي تُمنع مقالاته، فتزيد متاعب قلبه الرهيف أسىً فوق الأسى.. وقد ترك شهادته كاملة في كتابه “أحزان حرية الصحافة”، ذلك الكتاب “الوثيقة”، الذي يُعد شهادةً على عصرٍ من تكميم حرية الصحافة وتقييد حرية الكتّاب.
لم نشعر إطلاقاً بالرهبة، نحن شباب الصحفيين أمام قامة بحجم صلاح الدين حافظ، وقد رأيناه تواضعًا يمشي على قدمين، ومرآةً لنفس وروح طيبتين، ولعينين تشعان دفئًا، رغم قسوة المرض وعذاباته.
كان الرجل يعلّم ويوجّه على طريقة محمد حسنين هيكل “دع المستقبل يمضي واكتفِ بالتوجيه”.
وقد تركَنا المعلم نكتب بحرية ونتنفس حرية، وأمدَّنا بأرشيفه الخاص وعلاقاته العربية الحميمة، وكان يتركنا نذهب بالصفحات إلى المطبعة القديمة بالرصاص في الطابق الأرضى بالمبنى القديم، ويترك لنا الدعوات التي كانت تأتيه من الشرق والغرب لنذهب مكانه، وكان يمدّنا بشتى أنواع الكتب التي ترسلها له دور النشر والمؤلفون في مصر والعالم العربي، في وقت كان يرفض فيه زملاؤه والأقل مكانةً منه، مجرد مد يد المساعدة لنا..
عن طريقه عرفنا معنى أن الصحفي بلا مصادر هو جسد بلا روح، وأن الالتزام بالموعد واحترام الوقت مثل شرف الإنسان.. وأن مظهر الصحفي جزء من شخصيته، وواجهة للصحيفة التي يمثلها.
كنا ندوّن كل شاردة وواردة في مدرسة صلاح الدين حافظ، الذي أعطانا الثقة في أنفسنا، وعلّمنا معنى العزة في غير كِبر، والثبات على المبدأ دون تطرّف في المواقف أو تصلب في الأفكار.
كان صلاح الدين حافظ نموذجًا للتواضع، وكانت غرفته في الطابق الخامس بمبنى الأهرام القديم تشبه إلى حد كبير مكتب الراحل العظيم عبدالوهاب مطاوع في بساطته وضيق مساحته.. ورغم أن التدخين كان يضايق الرجل ويزيد من متاعبه الصحية، فإن أخلاقه الدمثة وطبيعته الخجولة، كانت تمنعه من لفت انتباه الآخرين، حتى إذا جاء ذلك على حساب صحته وجسده العليل.
إن مواقف صلاح الدين حافظ لا تُنسى .. وهو الذي كان ينفق من جيبه الخاص على شباب الصحفيين عندما كانت تتوقف الأهرام عن صرف مكافآتهم، وكان دائم التشجيع لنا بالنشر وبالسفر إلى الخارج لحضور المؤتمرات، أو للحصول على منح التدريب الصحفية، بل كان يزكينا للعمل في الصحف العربية ولدى وكالة الأهرام للصحافة، من أجل مساعدتنا ماليًّا وتشجيعنا على مواصلة طريق المهنة الشاق المحمَّل بالمتاعب والعواصف.
وأتذكر كيف كان الرجل يجلس معنا في حجرة الإنترنت ليتعلّم معنا مبادئ الصحافة الإلكترونية، وقد دخل في عامه السبعين.. ليعلمنا أن العلم لا يرتبط بعمر أو بمركز.. وكان يردد أن المستقبل للصحافة الإلكترونية، وليس للمطبوعة التي أصبحت مهنة في طريقها للانقراض، بفعل العولمة والتقدم التكنولوجي الرهيب.
رحم الله صلاح الدين حافظ إنساناً رائعاً وعقلاً مبدعاً ومعلماً لأجيال لا تزال وستظل وفية لذكراه، وعارفة بفضله ما دامت على قيد الحياة.. والأمل لا يزال في تلاميذه ومحبيه وجموع قرائه في مصر والعالم العربي.. أن يتواصل نهجه في الدفاع عن حرية الصحافة والصحفيين”.
التعليقات مغلقة.