“سوء الخاتمة” بقلم / بوعون العيد
في احدى المدن كان يعيش أخوان كريمان ، يسعيان لكسب لقمة الحلال من عرق الجبين ، حيث كانا يعملان بجدّ ونشاط وحيوية ، يكدّان لأجل تحصيل كسب وفير يحقّق لهما العيش الرّغيد ، وكانت تربطهما علاقة أخوية متينة ، حيث كان الأخ الأكبر هو من يدير جميع شؤونهما . وتنقضي الأيام ، وتمرّ الليالي والنّهر ، وهما يدأبان في العمل مشمران على سواعد التّحدي لمغالبة الأرزاء ، وكسر شوكة الحاجة . إلى أن جاء اليوم الذي تعرّض فيه الأخ الأصغر إلى مرض عُضال فتك بحياته ، وانتقلت روحه إلى بارئها . و تمت مراسيم الجنازة حسب ماهو معهود . بُعيدها عادت الحياة إلى سابق عهدها ، وبمرور أعوام ؛ قام الأخ الأكبر بجمع إخوته ووالدته في البيت ، واقترح عليهم فكرة مُفاتحة عمّهم في حقّهم حتى يتمكنوا من تدبير شؤون حياتهم حسب متطلباتهم ، فحدّدوا موعدا لذلك ، وقصدوا بيت العم ، فاستقبلهم بحفاوة ، وترحاب ، وبينما هم يتجاذبون أطراف الحديث ؛ خاطب الابن البكر عمّه قائلا : عمّي لقد جئناك اليوم وكلّنا محبة فيك على أن تعطينا حقّ والدنا . حينها لاحت على سَحْنته علامات الغضب ، واكمدّ لونه ، وصمت قليلا ، وأومأ برأسه يمينا وشمالا ، ثم نطق بصوت مبحوح مفاده ؛ والدكم ليس له أيّ شيء فقد كان يعمل عندي . ثمّة ثارت ثائرة الأخ البكر ، وانتفخت أوداجه ، واحمرّ وجهه ، لكن سرعان ما تدراك الأمر الأخ الأصغر ، واحتواه ، وأمر أمّه وإخوته بالإنصراف مودّعا عمّه ، وشكره على كرم الضيافة . وعند وصولهم إلى البيت جلسوا قابعين صامتين ، يغشاهم الذهول ، والحيرة ، والحسرة فيما سيحلّ بهم بعد الذي صدر من العمّ . وهم كذلك مطرقين رؤوسهم ، لاتسمع سوى بقايا أنفاس تصعد وتهبط ، حتى استفاق الكلّ على صوت الأخ الأصغر وهو يقول : أمي ، إخوتي ماقال العمّ ليس لنا ما يثبت عكسه سوى أن نقف وقفة رجل واحد ، ونتوكّل على الله ونستعين به ، ونبدأ المسيرة من جديد ، قانعين بأن الذي خلقنا هوالذي يرزقنا ، ولن يضيّعنا . ساعتها هدأت الأم من روعها ، ورفعت كفّيها سائلة المولى عزّ وجلّ: أن يحفظ أولادها ، ويرزقهم الحلال الطيب ، وأن يبارك في وحدتهم ، واتحادهم ، وبما أن البدايات محرقة ، فالنّهايات بعون الله مشرقة . وينطلق موكب السّعي بخطى متثاقلة ، ما فتىء يتسارع رويدا رويدا ، وتأخذ الأيام برقاب بعضها ، وينبلج فجر يوم جديد من رحم كرى ليل المعاناة الدّاجي ، ويعود اجتماع الأسرة بعد سنين حول مائدة السّعادة ، يتناولون الخبز المعجون بماء الصبر ، ويشربون ماء الفرح بعدما عكّرته أيام الحرمان الغابرة . وهم على ذاك النّحو من العيش وبسطته ؛ إذ برسول يأتيهم من طرف عمّهم يدعوهم لزيارته في بيته ، وعند سماع الخبر رفض الكل الذّهاب ، ومقاطعة العم طول العمر ؛ لكن الأخ الأصغر تدخّل ثانية ، وقال : بما أنّ العمّ أرسل في طلبنا نلبّي الدّعوة ، وبعدها يكن لكلّ حادث حديث ، ومهما يكن الأمر يبقى عمّنا ، وما حدث لا يعدو أن يكون حطام الدّنيا ، وها قد منّ الله علينا ورزقنا ، وأغدق علينا من نعيمه ، وجزيل خيراته . ولمّا وصلو كان المشهد مغايرا عن سابقه !؟ ، فقد تراءى لهم العمّ مُنطرحا على فراش المرض، وقد نحُل جسمه ، وتجعّد محياه ، ووهن عظمه ، وبدأت عيناه غائرتين أحاط بهما سواد ينمّ عن فقد عزيز . حاول الجلوس بعد إضطجاع فخانته صحته ، وانهمرت دموعه على وجنتيه تسبق تحيّته ، فاسرع الأخ الأصغر في مساعدته … ثمّة اشتدّت ألامه ، وتصاعدت أنّاته وزفراته ، وأسند رأسه على ذراع ابن أخيه، وبصوت رخيم متموج ممزوج بالأسى ، والنّدامة تكلّم بلسان العاجز ، وقد عاد عليه الزمن بكلكله قائلا : يا أبنائي … ، ثم طأطأ رأسه خجلا …، وأردف متحدثا : لقد ظلمتكم بسلبكم حقّ والدكم ، ولم أعيركم أيّ اهتمام ، ولم، ولم … لكن الدّنيا قصيرة ، وهاهي تعيد لقاءنا ، لكن في ظروف مغايرة ؛ فمن كان صغيرا كبُر ، واشتدّ عوده ، ومن كان سليما معافى البدن ، ينعم بالدّور ، والدّثور ، ٱل إلى السّقم ، والعجز ، وربما إلى العوز ، وهاأنذا كما ترونني! . لقد عجّلت في حضوركم ، وأنا أشعر بدنوّ أجلي ، حتّى أكفّر عن ذنبي ، وخطيأتي ، و أعطيكم إرث أبيكم . وبعد ما أتم حديثه ردّ الولد الأصغر : ياعمّي ، والدنا كان سندك ، وعضدك . أنت وإيّاه فلذتان من كبد والديكما فقد كان يحبّك حتّى النّخاع والشّرايين ، وأوصانا بك خيرا وتعلّمنا منه أنّ العمّ بمقام الوالد . كان كلّما عاد مساء متعبا ،أشعثا ،أغبر يخفي ٱلامه رغم أنها كانت بادية على يديه ، تترجمها الدّمامل ، والبثور ، وكان يقول : العمل عبادة ، وأفضله حين يكون كسبه حلال . يا عمّي والدنا كان أشبه بالطّائر فقد أطعمنا من حبّات قلبه ، وسقانا من ماء مقلتيه ، وبنى لنا من ظلوعه قفصا ، ومن مهجته بيتا من الإخلاص ، والوفاء ، والمحبّة ، ثم رحل ، وكنت أنت رجاءنا مثل رجاء الغيث ، وأملنا بعدما تقطّعت بنا السّبل ، وسندنا حينما عصفت بنا رياح اليُتم ، لكنّك يا عمّاه أدرت لنا ظهرك ، وكشّرت عن أنياب الغدر ، وغرزت في صدورنا سكّين القطيعة بعدما احتضناك ، واحتمينا بحماك ، رغم أنّنا لم نردّ على الخطأ بمثله ، بل ٱثرنا الصّبر ، والاصطبار ، وأنت ٱثرت الغوّالة الأكالة، الغرّارة ، الضّرارة ، التي رمت بك في بئر سحيقة ، وأغشت بصيرتك عن رؤية الحقّ السّاطع مثل فلق الصّبح . ألم تر فاقتنا ، ألم تر زوجة أخيك تبيت على الطّوى ، لماذا لم تشفق لحالنا ؟! . ياعمّي ، إن كنت جمعتنا لأجل بقايامال بعدما عصفت بنا عواصف الحاجة بعد أن ووقفنا أمامها شامخين شموخ أشجار السّرو والصفصاف ، فنحن لا نحتاجه ، ولا نريده ، وإن كنت قد انتفعت به في دار الرّحيل فخذه معك إلى دار الخلود . سمع العمّ كلام ابن أخيه وهو يموت عند سماع كل كلمة ألف ميتة ، ولماهمّوا بالخروج حدّق فيهم مليا واغرورقت عيناه ، ونحب نحيبا شقّ هدوء البيت ، وهوى كطائر أصابه الصياد بطلقة رصاص .
التعليقات مغلقة.