” فرح تحت القصف ” قصة قصيرة بقلم/ نجوى عبد الجواد
الليلة الخامسة من مئة ليلة وليلة.
السلام عليكم أخوتي، مرحبا بكم. هكذا بدأ بروفسور محمود ليلته الخامسة من “مئة ليلة وليلة “، وبعد التحية قال :من الليلة السابقة تعرفون عنوان قصة الليلة،سوف تكتشفون أن هؤلاء البشر الذين عرّفنا عليهم منتصر يحبون الحياة، ولا يهابون الموت، من رحم المعاناة يزرعون نبتة جديدة لحياة جديدة، يخطفون ابتسامة، ويسرقون من الزمن ضحكة، ينتظرون الموت في كل لحظة ويحيون هذه اللحظات كما لو كانت الحياة آمنة، جميلة.
يحكي منتصر الفلسطيني ويقول :
في أقصى الفصل تتوسد الأرض مع ابنتها، هذا نصيبها من هذا المكان الذي صار ملاذا للمئات الذين يأملون أن يكون آمنا. يراها الجميع منعزلة عنهم بالرغم من أن الفقد والحزن وتوقع الموت بين لحظة وأخرى القاسم المشترك بينهم جميعا، يواسون بعضهم بعضا تارة، ويبكون الأحباب تارة أخرى، يشكون لله الجوع والعطش والبرد ووحدتهم بين العالم المتخاذل. هي صامتة أغلب الوقت مثل طفلتها عائشة، كلاهما نجا من مجزرة، لكن المشهد حُفر في الذاكرة وفي القلب بخنجر حاد، وستظل الروح تنزف حتى يلتقيا في جنة الخلد مع الأحباب. عينها على عائشة :من لي بطبيب يداويكي يا عائشة؟! وأي دواء يمحو من داخلك أختيك اللتين صارتا أشلاء أمامك أمامي؟! يا حسرة قلبي عليكم جميعا. أصوات انفجارات، تفزع الطفلة، تأخذها في حضنها ترتعد، يرتجف كل جسدها، تنظر عائشة ليديها اللتين تنتفضان، لاتدري كيف تكفهما عن الحركة!. حضنها الملجأ لها، لكنه لايدري كيف يسكت صوت الطائرات فوقهما.
يغلبهما النوم بعد أن توقف القصف، نوم متقطع، تستيقظ عائشة وتأخذ وضع الجلوس، تنصت لأصوات في الخارج، تبتسم، تنسحب من جانب أمها وتتجه نحو الصوت. من الفصل الذى يأويهما مع آخرين تخرج، تندس بين الجموع الواقفة على السور تنظر للملعب، ترفع نفسها، لاترى شيئا،
تزاحم النسوة اللائي يزغردن والفتيات اللاتي تصفقن، لافائدة لاترى شيئا. تجري مسرعة لأسفل، تندس بين الشباب الذين يضربون بالدفوف و الصواني ويتحوطون حول شاب مثلهم لايختلف عنهم، يرتدى ملابس بسيطة، ويستجيب لضحكاتهم التى يرسمونها ويصفق ويغني معهم، لم ينس سنوات عمرة التى تغرَّب فيها عن أهله وعن عروسه حتى يصنع مكانا يتزوج فيه، وهاهو المكان صار كومة تراب، وهاهو يزف إلى عروسه بلا أي شيء سوي رغبتهم في الحياة!. لابد أن يفرح ربما ليشجعها على أن تغتصب ابتسامة وتسرق لحظة فرح قبل أن يعود الضرب، ربما تكون هذه آخر لحظاتهم في الحياة فليفرح ويرقص ويغني من أجلها، ومن أجل هؤلاء جميعا، الذين يتقنون أدوار الفرحين بمهارة وهو يعلم والله من قبله يعلم كيف تبكي قلوبهم. عريسها الوسيم بملابس البيت وهي من اختارت الفستان والقاعة ومن قبلهما عشهما تقف أمامه بجلباب واسع وغطاء رأس، ماكانت لترتديهما إلا عند تنظيف البيت، لكن من أجله يجب أن تفرح، من أجل هؤلاء الذين يغالبون حزنهم يجب أن تفرح، تصفق يداها، وتلتفت إلى جانبها لتجد عائشة تمسك بطرف جلبابها وهى تبتسم. تحملها على كتفها وتلقيها للعريس داخل حلقة الشباب.
هائجة، جزعة، استيقظت أم عائشة، أين ذهبت البنت؟!، لاتريد أن تفقدها كما فقدت أختيها. تعالي أم عائشة شاركينا الفرحة، تنادي إحدى السيدات. لاترد، ولاتعيرها اهتماما، فقط عائشة هي من يسيطر على فكرها. من فصل لآخر، ومن طرقة لأخرى، ومن المعمل للمكتبة، لا أثر لعائشة. تكدس على السور، ليست بينهم، نظرة إلى الفناء حيث تجمع الشباب الذى يرقص ويغني، لا تراها، بلهفة وخوف وغضب تسأل من تراهم، أين ذهبت عائشة؟! إنها لاتنطق، لن ترد على من يسألها عن اسمها أو أهلها، رحماك يا الله، صار الحزن وشما بداخلها، ومازالت على قيد الحياة وهي ميتة، هكذا ترى أم عائشة نفسها. دلني على عائشة يا الله، احفظها لي يارب العالمين. بين الشباب تدور عائشة، يحملها العريس على كتفه ويدور بها، تضحك عائشة وتصفق، سعادة تغمرها، تنسيها مافات -ولو مؤقتا-. هل تكون بينهم، إنها تخاف من الناس من يوم المجزرة، ليس أمامها غير البحث هناك. تطوي درجات السلم، لاتبالي بالخشونة في قدميها، تسير وهي تعرج، ترى شبابا يحاولون أن يفرحوا وترى فتاة تصفق على استحياء، عائشة ضنايا، ربما تكون في ركن بعيد وحيدة خائفة، ياربي قد تجن البنت.! تتسع الدائرة، تهدأ أصوات الطبل، يلتقط الشباب أنفاسهم، عائشة! عائشة على كتف العريس ضاحكة سعيدة، لاتصدق الأم نفسها، تصرخ، تقتحم الصفوف، تنادي :عائشة، عائشة. تبتسم لها الطفلة ،تفتح الأم ذراعيها وتفتح عائشة شفتيها، تحرك الأم قدمها الثقيلة ، وتحرك عائشة لسانها الثقيل، أجمل حضن لعائشة وأجمل صوت تسمعه أم عائشة. تصفق بيديها، فرح، فرح. يا الله تنطقين يا عائشة، تنطقين. قولي مرة أخرى فرح، أريد أن أسمع صوتك، انطقي، انطقي مرة ثانية. تضحك وتكرر فرح، فرح فرح. يتأثر الجميع بما حدث ويحيطون العروسين وعائشة بدائرة كبيرة وشرعوا يغنون بسعادة حقيقية :
حس الفرح
يا يما حس الفرح
في دار لخوالي
يما رماني الهوي
وغير لي أحوالي
ضليت أدور على
لجواد تلاقين
يما رماني الهوا
ختم منتصر قصته بهذه الأغنية والتي أخذ يرددها الجمهور خلف بروفسور محمود وكأنهم يشاركون هؤلاء الأجداد فرحتهم التى لم يمنعهم القصف من أن يحيونها. وعلى وعد بحلقة جديدة وقصة “الحذاء” ينهي بروفسور محمود الليلة الخامسة.
التعليقات مغلقة.