حقيقة الإسراء والمعراج بين الروح والجسد .بقلم.مدحت رحال
في شهر رجب من كل عام ،
يعود الحديث مجددا عن حادثة الإسراء والمعراج ،
وهل كانت بالروح والجسد أم بالروح فقط ،
وتثار الشكوك حول المعراج أو العروج إلى السموات العلى على وجه الخصوص ،
تأملت مليا في الأمر ،
حاولت الربط بين المعاني واستشراف مدلول العبارات ظاهرها وخفيها ، مما ساعدني على الخروج بتصور واضح المعالم :
المعراج أو العروج ممكن عقلا ونقلا ،
سأتناول الإسراء والمعراج كحدث بإيجاز وبما يفيد في بيان حقيقته ،
ومن أراد السرد القصصي فعليه بكتب السيرة وغيرها مما عرض لتفاصيل هذا الحادث المعجز ،
اشتد أذى المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين ،
وبلغ مداه بعد موت أبي طالب السند القوي للرسول ، ( حتى لقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام : لم تنل مني قريش شيئا مما أكره إلا بعد موت أبي طالب ) ,
وموت خديجة زوجته ، التي كانت المرفا الذي يأوي إليه كلما اشتد أذى قريش ، فيجد فيه السكينة والتسرية والطمأنينة ،
وقد سمي هذا العام / عام الحزن ،
ولكن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليترك رسوله فريسة للحزن والهم وأذى قريش ،
فجاءت حادثة الإسراء والمعراج فيما بين السنة الحادية عشرة والثانية عشرة من البعثة ، وقبل سنة من الهجرة ،
حيث أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ، ومنها عُرج به إلى السماء ،
لتقول للرسول :
إذا ضاقت بك رحاب مكة ، فهذه رحاب الله مفتوحة ،
ووصل إلى مقام لم يصله نبي مرسل ولا ملك مقرب ، فكان قاب قوسين أو أدنى
وفي ذلك المقام توقف جبريل عليه السلام وقال :
تقدم يا محمد ،
فيقول الرسول الكريم : أفي هذا المقام يفارق الخليل خليله ؟
فيرد جبريل عليه السلام : لكل منا مقام معلوم ،
أنا إن تقدمت احترقت ، وأنت إن تقدمت اخترقت ،
وفي هذا القول لطيفة :
جبريل ، بطبيعته الملائكية النورانية ، إن تقدم احترق
ومحمد ، بطبيعته البشرية الطينية ، إن تقدم اخترق
فليس الفضل لمادة الخلق ، ولكنها الكرامة والفضل من الله ، هي التي تمنحها التميز والأفضلية ،
( وهذه كانت خطيئة إبليس الكبرى )
( نظر إلى المادة فتوهم أن النار أفضل من الطين )
توقف العلماء قديما وحديثا أمام ش حادثة الإسراء والمعراج ، وقالوا فيها ما قالوا ،
وانقسموا بين قائل :
كان الإسراء والمعراج بالروح
وقائل :
كان بالروح والجسد ،
وقال آخرون : كان الإسراء بالروح والجسد ، وكان المعراج بالروح ،
لم تستوعب مداركهم أن ينتقل الجسد من العالم الأرضي إلى عالم ملكوت السموات ، بطبيعته البشرية الطينية ،
وبعد ان تاملت مليا في الآيات التي تحدثت عن ذلك ،
وما في القرآن من قرائن تفتح لنا آفاق العلم والمعرفة للوصول إلى الحقيقة ،
فإني بعد الإستعانة بالله أضع هذا التصور عن حقيقة الإسراء والمعراج :
استهجن مشركو مكة هذا الحادث واستنكروه بشدة ، وقالوا :
كيف ذهب محمد إلى بيت المقدس ورجع إلى مكة في ليلة او بعض ليلة ، ونحن نضرب أكباد الإبل إليها شهرا ذهابا وآخر إيابا ؟
إذن هم فهموا الإسراء على أنه انتقال مادي بالروح والجسد ، فاستنكروه إلى درجة أن بعض ضعاف الإيمان قد ارتد عن الإسلام ،
ولو كان الإسراء بالروح دون الجسد لما وقفوا هذا الموقف ولما استهجنوه ،
فليس غريبا ولا عجيبا أن تتحرك الروح في نومها وتجوب الآفاق ، ولما كان في ذلك معجزة ، فأي روح تبحر عند النوم وتتخطى حدود الزمان والمكان والمعقول واللامعقول،
جاء في أول سورة الإسراء :
(( سبحان الذي أسرى ( بعبده ) ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقص الذي باركنا حوله ))
قال : عبده ، ولم يقل روح عبده
والعبد والعبيد والعباد تطلق على المخلوق جسدا وروحا ،
وكل ما ورد في القرآن من هذه الألفاظ إنما يعني هذا الكائن الحي روحا وجسدا ،
في سورة النجم ، وهي التي تشير ضمنا إلى المعراج :
(( ما كذب الفؤاد ما رأى ، أفتمارونه على ما يرى ))
(( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، عندها جنة المأوى ، إذ يغشى السدرة ما يغشى ))،
(( ما زاغ البصر وما طغى ، لقد رأى من آيات ربه الكبرى ))
تمسك مؤيدو الإسراء بالروح بالآية ( ما كذب الفؤاد ما رأى )
فقالوا إنها تدل على أنها رؤية بالروح ،
لنتدبر قليلا :
تكرر لفظ ( رأى ) أربع مرات متتالية ،
وهذا يدل على ان الرؤية كانت حقيقية وليست مجازية ،
ولا يجوز لغة ان نصرف الكلمة عن مدلولها الحقيقي إلا لعلة ،
فأين هي العلة هنا لتقول إن الرؤية مجازية ؟
يؤكد ذلك قوله : ( ما زاغ البصر )
كلمة البصر قاطعة بأن الرؤية كانت حقيقية ، فآلة الإبصار هي العين ، لم تُستعمل كلمة / بصر ، قط في معنى مجازي يصرفها عن مدلولها ،
أما ( ما كذب الفؤاد ما راى )
فالرؤية هنا مجازية ، لأن الفؤاد لا يرى ، فهو ليس آلة للرؤية ،
الفؤاد يستوعب ويدرك ويعي ما يراه أو يسمعه الإنسان ،
فهو آلة إدراك واستيعاب ، وليس رؤية حقيقية ،
هنا دائرة لها قطبان :
رؤية حقيقية وآلتها العين ووسيلتها البصر
ورؤية مجازية وآلتها الفؤاد ووسيلتها البصيرة والإدراك والوعي
التقى القطبان : الحقيقي والمجازي ، فاكتملت الدائرة :
العين أبصرت ورأت
والفؤاد وعى وأدرك ،
وهذا قمة البيان ،
ولعل الآيات :
( ولقد رآه نزلة اخرى ، عند سدرة المنتهى ، عندها جنة المأوى )
تشير لذلك بصراحة ,
فالنص قاطع بأن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى جبريل عليه السلام بهيئته التي خلقه الله عليها عند سدرة المنتهى عند جنة الماوى ،
أي في الملكوت الأعلى
ولدينا في القرآن الكريم قرينة تدل على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد ،
جاء في سورة النمل :
(( قال يا أيها الملأ أيكم ياتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين
قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي امين
قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك
فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم ))
تحدثت هذه الآيات عن طلب سليمان عليه السلام من الملأ ، أي كبار حاشيته ، أيهم يأتيه بعرش ملكة سبأ قبل أن تاتيه وقومها مسلمين ،
عفريت من الجن معتد بقوته الجسدية المادية ، قال إنه سياتيه بعرشها في ساعة أو أقل من ساعة ،
ولكن الذي عنده علم من الكتاب أتاه بالعرش في أقل من طرفة عين ،
هنا معجزة اختراق الزمان والمكان وتعطيل النواميس بمقاييس الدنيا ،
عرش عظيم في اليمن داخل قصر منيف موصد الأبواب مسقوف ليس فيه منفذ إلا للتهوية ،
ينتقل في أقل من طرفة عين ، ويدخل قصرا آخر في بيت المقدس مخترقا حساب الزمان والمكان ،
مخترقا الجُدر والسقف في كلا القصرين ،
فقد تعطل قانون ماديتها فأصبحت كالهواء ، فاخترقها العرش خارجا منها من اليمن وداخلا إلى القصر في بيت المقدس في طرفة عين أو أقل ،
إذا كان مخلوق قد استطاع أن يفعل ذلك وتتعطل له النواميس وحسابات الزمان والمكان ،
أو ليس أولى بنا أن نسلم بأن الله خالق النواميس وواضع قوانين الزمان والمكان أقدر على فعل ذلك ؟
وإن نقول بأنه سبحانه وتعالى عطل النواميس وقوانين الزمان والمكان ، وأسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عرج به إلى السماء حيث وصل إلى مقام لم يصله نبي مرسل ولا ملك مقرب ،
هذه الآية من سورة النمل لكأن الله وضعها لتؤكد إرادة الله في فعل الشيء بمجرد المشيئة ، ولتشير ضمنا إلى حادثة الإسراء والمعراج لمن يتدبر ويقرا بين السطور ، فيربط بين الحدثين ، وليست مجرد حكاية قصة عن انتقال عرش ،
فالله ليس بحاجة إلى أسباب وهو واضع الأسباب ،
وليس عنده قريب أو بعيد ، فلا حساب للزمان ولا للمكان عنده ،
فهو خالقهما ، يعملان بنواميس وضعها ، يوقفها متى شاء وكيف يشاء ،
بقى أن أشير إلى من يقول إن الرسول عُرج به إلى السموات العلا راكبا البراق .
البراق رُبط إلى حائط البراق ولم يرتق إلى السموات العلا .
لم يرد في وصف البراق أن له جناحين ليطير إلى السماء .
وهذا يعني أن هناك قوة صعدت بالبراق ،
فالقوة أو الطريقة التي صعد بها البراق إلى السماء وعلى ظهره رسول الله عليه الصلاة والسلام كما يقولون هي الطريقة التي صعد بها رسول الله إلى السموات دون بحاجة للبراق .
وقد يسأل سائل : فلماذا انتقل الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس على البراق وليس بالطريقة التي انتقل بها إلى السماء ؟
الجواب : إن الرحلة من مكة إلى بيت المقدس رحلة أرضية فناسبها الإنتقال بوسيلة أرضية .
وأما العروج فهو رحلة سماوية كانت بمطلق القدرة الإلهية ولا تناسبها الوسيلة الارضية .
لعلي قد استوفيت الحديث في هذا الموضوع وبما فتح الله علي ،
فما كان من خطأ فمني ومن الشيطان وأستغفر الله العظيم
وما كان من صواب فبفضل من الله وتوفيقه
والحمد لله رب العالمين ،،
مدحت رحال ، ،
التعليقات مغلقة.