فن الإخراج في النص القرآني..العقدة.. الموقف الفارق والحبكة.. في سيرة إبراهيم خليل الرحمن (3 من 3)..بقلم/ مجدي سالم..
فن الإخراج في النص القرآني..
العقدة.. الموقف الفارق والحبكة.. في سيرة إبراهيم خليل الرحمن (3 من 3)..
بقلم/ مجدي سالم..
نستكمل مع حضراتكم هذا القبس من نور الله.. والمثال في إخراج سيرة أبي الأنبياء.. مع روعة توظيف الكاميرات وحركتها حول العالم.. ووتنقل الأحداث في شكل ومضات قصيرة بينما يجري الحوار المقتضب لكن إلى الهدف.. وتوظيف النور والنار في الأحداث.. والأمن والأمان.. من ألوان السماء وسطوع الشمس إلى الليل..
ثامنا.. ذكر القرآن الكريم قصة إبراهيم في ثلاثة وستين موقفا.. كانت كافية لتجسد الرواية بطريقة يعجز عن تحقيقه أي عمل سينمائي أو مسرحي (أنظر الملحق المرفق بعد الحلقة) ..
سنأخذ منها قطوفا على سبيل المثال.. وكان للمواقف الفارقة في سيرة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام نمط مختلف تماما عمن سبقوه.. وحتى من خلفوه.. فقد بدأ المواجهة منذ نعومة أظفاره ضد شتى صنوف الشرك.. سواء من كانوا يعبدون ملوكهم أو عبدة الأوثان والأصنام أو عبدة النجوم والكواكب.. وقد سار يدعو إلى توحيد الواحد الأحد في شتى بقاع الأرض.. ثم رفع القواعد من البيت الحرام في مكة المكرمة فكان ذلك تتويجا لمسيرة النبي الرسول المجاهد.. وتشعر أن سيرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي رواية من فصول متفرقة.. لكل فصل فيها بداية هادئة ونهاية معجزة.. ولكل فصل موقف فارق أو لحظة حسم..
لا نعرف كم كان عمر إبراهيم يوم خرج إلى الفلاة بعيدا عن كل الناس يبحث عن الحقيقة.. هو يريد أن يجد أو يرى هذه القوة العظيمة الهائلة التي تدير هذا الكون.. يريد أن يجد ربه.. شيء ما في وجدانه يخبره أن الإله لابد أن يكون في السماء.. إن الموقف يتصاعد ويتصاعد حتى أنك ترى حيرة إبراهيم تجسدها الآيات وحتى تشعر أنك تعيش معه اللحظة الفارقة.. فإما هداية وإيمان وإما تيه في أقطار السماء.. إن البشرية على وشك أن تكسب نبيا عالما تقيا.. تقول سورة الأنعام أن إبراهيم كان يواجه وحيدا أمة كاملة.. فكان أمة في ذاته.. بدأت المواجهة الحادة بينه وبين أبيه..ثم اتسعت لتصبح مواجهة لقومه كلهم.. ثم لكل المشركين.. ومن عظمة الراوي العلي القدير أن القاريء يكاد لا يحتاج تفسيرا.. وقد يسر القرآن للذكر:
فها هو يواجه الموقف الفارق الأول.. والموقف يبدأ بالفتى العبقري يواجه قومه.. ويعلمه ربه ويهديه.. تروي سورة الأنعام.. ” وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)..
ثم هو في موقف جديد.. ينساب في يسر.. فهل من مدكر.. ها هو إبراهيم وحده.. والكون.. والقلب الواعي.. والبصر والبصيرة.. وهدى الله.. اقرأ:
” وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)”..
لقد اتخذ الصبي النبي القرار الصائب بعد حيرته.. ورغم أن الأمر جلل وعظيم.. والموقف الفارق يحتاج إلى همة أولي العزم.. إلا أن إبراهيم يعبر بإيمانه إلى ضفاف الأمان في يسر.. فالله قد هداه إليه.. ووهبه ذات السلطان الذي سيهب أولي العزم من أبنائه.. إن إبراهيم ويواجه قومه.. يدحض شركهم على اختلاف ألوانه.. ويهاجر داعيا متحديا الشرك في مكانه..
” إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)”..
ثم ها هو إبراهيم يحطم أصنامهم.. وها هم يقذفون به إلى النار.. فتكون بردا وسلاما عليه في إعجاز مثالي تنتهي معه “اللحظة الفارقة” التالية..تقص سورة الأنبياء..” قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) “..
وانظر.. إن إبراهيم يتعرض لإختبار جديد.. تقول سورة إبراهيم عن تلك “اللحظة الفارقة..
” رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ”.. لقد قذف بزوجه وبوليده إلى جوف الصحراء ومضى كما أمره ربه.. فكانت زمزم وكانت (جرهم) وكان تأسيس المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا هو النهاية الرائعة “للموقف الفارق”..
ثم فصل و”موقف فارق” جديد يعيشه.. إن على إبراهيم أن يذبح إسماعيل.. تقول الروايات أن حب إبراهيم له أصبح طاغيا وقد رزق به على الكبر.. تقص سورة الصافات..” وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)”.. إن الله رضي عنهما وغفر له تعلقه بولده فأنهى العقدة بمعجزة جديدة..
أراكم في حلقة قادمة مع هذا الإشراق إن شاء الله..
التعليقات مغلقة.