الإخراج الفني في النص القرآني..”حياة موسى” على شاشة القرآن.. ( 9 ) .. بين طالوت وداوود وبني إسرائيل.. بقلم/م.مجدي سالم
الإخراج الفني في النص القرآني..
“حياة موسى” على شاشة القرآن.. ( 9 ) .. بين طالوت وداوود وبني إسرائيل.. بقلم/م.مجدي سالم
….. ” رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ”.. من سورة البقرة…..
سبحانه الراوي.. جاءت الآيات التالية من قصة “حياة موسى”.. لتسجل الأحداث الأخيرة ونهاية قصة “حياة موسى”.. وما كان من بني إسرائيل مع الملك طالوت.. ولتسجل أول ظهور نبي الله داوود.. عليه السلام..
وشاء الله أن تكون هذه الآيات هي الأخيرة من “حياة موسى” في سورة البقرة.. بالرغم من ظهور بني إسرائيل في معظم مشاهد السورة المدنية.. أطول سور القرآن.. ونستطيع أن نقول أن سورة البقرة قدمت معظم الأحداث التي جرت بين مصر وسيناء وبعد عودة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام من مدين إلى مصر.. كما وأن أحداث هذه الحلقة قد جرت بعد وفاة موسى ..
اقرأ السيناريو والحوار المعجز.. من سورة البقرة (246 – 252)..
” أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى..
إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..
قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا.!
قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا..
….. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) …..
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ..
قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ..
قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ …. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) ..
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) ..
…. فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ…..
قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ..
…. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.. فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ….
قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ..
قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) ..
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) ..
…. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) “……
ظل دخول الأرض المقدسة حلما يراود بني إسرائيل على مدار التاريخ.. لكن بعض البشر لا يسعى لتحقيق حلمه.. فيظل خيالا في وجدانه.. أو مجرد أمنيات..
وتبدأ هذه القصة القصيرة المكتملة الأركان بأحداث آثر الراوي سبحانه وتعالى ألا يفصلها..
ذهب بنو إسرائيل لنبيهم يوما.. لم يذكر القرآن من هو النبي.. سألوه أن يسأل الله أن يبعث لهم ملكا يجمعهم تحت رايته كي يقاتلوا في سبيل الله.. قالوا ونستعيد أرضنا ومجدنا..
قال نبيهم وكان أعلم بهم: هل أنتم واثقون من القتال لو كتب عليكم القتال؟
قالوا: ولماذا لا نقاتل في سبيل الله.. وقد طردنا من ديارنا.. وتشرد أبناؤنا.. وساء حالنا؟ قال نبيهم: إن الله قد اختار لكم طالوت ملكا عليكم. قالوا: كيف يكون طالوت ملكا علينا وهو ليس من أبناء الأسرة التي يخرج منها الملوك – أبناء يهوذا- كما أنه ليس غنيا وفينا من هو أغنى منه؟
قال نبيهم: إن الله اختاره.. وفضله عليكم بعلمه وقوة جسمه.
قالوا: ما هي آية ملكه؟
قال لهم نبيهم: أن يعيد لكم التابوت ـ وهو صندوق التوراة ـ الذي أخذ منكم..
وقد وقعت هذه المعجزة بتالفعل.. وعادت إليهم التوراة يومها..
ثم تجهز جيش طالوت.. وسار الجيش طويلا حتى أحس الجنود بالعطش.
قال الملك طالوت لجنوده: سنصادف نهرا في الطريق.. فمن شرب منه فليخرج من الجيش.. ومن لم يذقه وإنما بل ريقه فقط فليبق معي في الجيش..
.وجاءوا النهر فشرب معظم الجنود.. وخرجوا من الجيش.. كان طالوت قد أعد هذا الامتحان ليعرف من يطيعه من الجنود ومن يعصيه.. وليعرف أيهم قوي الإرادة.. وأيهم ضعيف الإرادة يستسلم بسرعة.. فلم يبق إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.. كما يقال.. ولذلك كان عدد أفراد جيش طالوت قليلا.. وكان جيش العدو كبيرا وقويا.. فشعر بعض -هؤلاء الصفوة – أنهم أضعف من جالوت وجيشه…
وقالوا: كيف نهزم هذا الجيش الجبار؟
قال المؤمنون من جيش طالوت: النصر ليس بالعدة والعتاد.. إنما النصر من عند الله..
… قال تعالى (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ)….
” وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ”..
برز جالوت في دروعه الحديدية وسلاحه.. وهو يطلب أحدا يبارزه.. خاف منه جنود طالوت جميعا.. برز من جيش طالوت راعي غنم صغير هو داوود..
كان داود مؤمنا بالله.. وكان يعلم أن الإيمان بالله هو القوة الحقيقية في هذا الكون.. وأن العبرة ليست بكثرة السلاح.. ولا بضخامة الجسد..
وكان الملك طالوت قد قال: من يقتل جالوت يصير قائدا على الجيش ويتزوج ابنتي..
لم يكن داود يهتم كثيرا لهذا الإغراء.. كان يريد أن يقتل جالوت لأن جالوت رجل جبار وظالم ولا يؤمن بالله.. وسمح الملك لداوود رغم صغر سنه أن يبارز جالوت..
وتقدم داوود بعصاه وخمسة أحجار ومقلاعه. تقدم جالوت المدجج بالسلاح والدروع. وسخر جالوت من داوود وأهانه وضحك منه.. ووضع داوود حجرا قويا في مقلاعه وطوح به في الهواء وأطلق الحجر.. فأصاب جالوت فقتله.. وبدأت المعركة وانتصر جيش طالوت على جيش جالوت الظالم.. وبعد فترة أصبح داود – عليه السلام- ملكا لبني إسرائيل.. فجمع الله على يديه النبوة والملك مرة أخرى.. هل تابعت كيف تم إخراج القصة..
إن البداية المسرحية والحوار بين نبي بني إسرائيل وبينهم يبدأ هادئا مع مطالبتهم بتعيين ملك يتولى مهمة القتال في سبيل الله.. فإذا كتب عليهم القتال تولوا مدبرين إلا قليلا منهم..
فما يلبث الحوار أن يحتدم حين تدق طبول الحرب الحقيقية وتظهر معادن.. الرجال.. وتظهر عبودية بني إسرائيل للمال.. إنهم لن يحاربوا تحت لواء ملك ليس لديه سعة المال مثلهم.. يرون أنهم الأجدر بالملك بما لديهم من مال.. فيحسم الله الموقف.. إن اختيار طالوت اختيار إلهي.. ومعجزة إعادة التابوت تحمله الملائكة إليهم هو الدليل.. ويترك القرآن لمخيلة القاريء ما جرى.. لكن المشهد التالي يظهر فيه الملك طالوت يتصدر الجيش الذي خرج بالفعل للقتال في سبيل الله..
إن العمل يتحول هنا إلى الإخراج السينمائي الذي يظهر فيه الجيش في الطريق للقتال..
نحن نتعلم من إخراج القصة فن التشويق.. فالقصة قوية وتوفر لها كل أركان القصة الطويلة وإن اختصرها القرآن في سطور قليلة.. عموها الفقري الصراع بين الخير والشر.. لينتصر الخير..
نتعلم فن اختيار الأبطال.. فأبطالنا في الخير هم أنبياء.. لا نعرف بالتحديد إسم نبي بني إسرائيل الذي لجأوا إليه في بداية القصة.. لكننا عرفنا شخصية الملك طالوت القوي العالم التقي.. ونعرف نبي الله داوود الذي انتهت عنده القصة.. وأبطال الشر بين عملاق كافر اشتهر بالقوة وهو جالوت.. وبين أناس لا عزم لهم ولا عقيدة راسخة وهم بني إسرائيل.. وجالوت قواته..
نتعلم فن استخدام أجهزة التصوير والكاميرات والمسجلات الصوتية..
وانظر كيف يحظى العمل بنص هو قصة حقيقية.. لها بداية معقدة ولها نهاية سعيدة.. ثم كيف تم الإخراج بين السرد والحوار.. إن كل شيء في القصة يتحرك.. يهبك النص المقاطع الإيمانية التي هي الهدف في الحقيقة.. ويترك لفطنتك تفاصيل القتال مثلا.. يعطيك البداية للقتال.. ويعطيك الحدث المحوري.. قتل داوود جالوت.. مع أنه لم يقدم داوود هنا أبدا.. ويسبقها بالنهاية السعيدة.. فهزموهم بإذن الله.. لكنك تشعر أنك تسير مع طالوت وجنوده.. وتعاني معاناته.. وتعبر معهم النهر تاركا قوام جيش بأسره خلفك لإنهم عصوا الله وملكهم.. تمس الماء.. تمسك بمقلاع داوود.. سبحان الله..
“حياة موسى” وسورة آل عمران..
جاء ذكره عليه الصلاة والسلام في آية واحدة في هذه السورة.. ولم تكن تغطي من أحداث القصة بل اقتصرت على التعريف برسالات السماء.. آل عمران – الآية 84..
“قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ”..
أراكم في حلقة قادمة إن شاء الله..
التعليقات مغلقة.