مذكرات سجينة.بقلم
فوزية الكوراني
تحتسي قهوة الصباح تنتابها سعادة كبيرة وهي ترى أشعة الشمس تغازل وجهها وتضيف له نورًا.. لاأحد يعلم معنى هذا اللحظات التي تشرق فيها الشمس وتزورها في غرفتها الصغيرة المتواضعة.
كم هي ثمينة جداً، في حين أن لا أحد يأبه لها!
مامعنى أن تشرق الشمس وأن تغيب، هذا قانون الحياة! لكن هي لم تعتد على هذا القانون، ولا أحد يعلم ماتشعربه عندما تلاحق أشعة الشمس في غرفتها
وتلاعب ظلها على الجدار، وتركض كالفراشة تحوم في البستان حول الأشجار تغازلها وتلعق رحيق أزهارها، وهي ترى أشعة الشمس تغازلها هي فقط… نعم هي فقط! لاأحد يعلم عطشها اليومي لتلك الأشعة.
ما أبسط طلبها من الحياة؛ فقط شمسا دافئة ونورا ينبعث إلى داخلها، وداخل غرفتها التي لاتعرف كيف منحها الله إياها، بعد عودتها من الموت!
و عندما تغيب الشمس، هناك ضوء المصباح، والقمر.. أو ضوء الشارع وأصوات المارة، حتى صوت المشجارات التى تحدث أحيانا؛ لها طعم تشعرها أنها فوق الأرض!
سكبت ماتبقى من القهوة على الطاولة، وضحكة كبيرة خرجت من أعماقها لتسكب الدموع على وجنتيها من فعلها هذا! وهي التي كانت تحلم أن تلعق البقايا اليابسةمن القهوة التي تهرب من فنجانه قسرًا.. لكنه كان يبصق عليها لكي لاتتمكن من ذلك!
وبدأت ترسم (بالطحل). لاتعلم كيف ولماذا خربشت بأصابعها. غرفة مظلمة دون نافذة ارتعدت خوفا! وبدأت بحركات جنونية تمسح القهوة وكل مارسمت!
أسرعت إلى النافذة فتحتها، نظرت إلى الشارع المكتظ بالناس الحياة تسير وكلاً يمشي لغايته.
تنفست الصعداء تحسست قلبها ونبضاته
هي على قيد الحياة إذًا!
عادت تلاعب أشعة الشمس وتركض في غرفتها ليلاحقها خيالها.
تضحك بصوت عالٍ، تصرخ بكلام مبهم، قائلة : أنا حرة، أنافي الطابق العلوي، الشمس تزورني كل يوم! إلى آخر هذا الهذيان! تدور.. وتدور حول نفسها إلى أن سقطت على الأرض، كأنه أغشيّ عليها. وبعد قليل، فتحت عينيها وثبتت نظرها في سقف الغرفة وكأن سطور حياتها مكتوبة عليه:
كان ياما كان فى سالف العصر والأوان قبل الزمان بزمان، وقبل أن يكون هناك أوطان، وقبل أن يكون للعقل دور فى جسم الإنسان.
كان هناك إمرأة صغيرة في السادسة عشر من عمرها طالبت بالحياة…
فكان مصيرها زنزانة وقيودًا وُسَجّان ظالم، وضعوه على باب زنزانتها، وتركوا له الحرية في كيفية تعذيبها! لكي تنسى الحياة التي تطلبها… وفي كل مرة يتم تعذيبها وتصل إلى شفير الموت! ينتج من عذابها طفلا يرتع في أحشائها!
لاتعلم كم كان نتاجها! لم تؤرخ عذاباتها، فقط كانت تنظر إلى هذا السجان الذي لايَمَل من تعذيبها.
مرت السنون شاخ وأصبح يعذب نفسه بتعذيبها… توقفت عن نتاجها للأطفال وهو لم يتوقف! ألف مرة ومرة؛ طلبت منه أن ينهي حياتها بضغطةعلى زناد مسدسه ويقول انها حاولت الهرب! لا أحد يحاسبه! ولا أحد يسأل عنها! لأنه وفي أحدى لياليّه المخمورة؛
مع وجبة التعذيب المعتادة اعترف لها أنهم أخبروا أهلها أنها انتحرت، وأنهم دفنوها في مقبرة بمعرفتهم! فلا أحد يستطيع محاسبتهم، وتركوها هدية له ومكافأة على حسن عمله، إذن هي الأن في تعداد الموتى! وحتى نتاجها من الأطفال لاتراهم! فقط تعيش معهم تسعة أشهر وهم في رحمها، وساعة الولادة يضع على فمها (خرقة) مبللة بمادة يكتم بها صوتها ووعيَّعها، يغشى عليها تستيقظ بعدها لتجد بطنها فارغة و لاتعلم من أفرغها!
كم حلمت أن تستقيظ لتجد نفسها في عالم ثان، عالمٍ سمعت عنه يوما من جدتها :” من تموت وقت الولادة تأخذها الملائكة إلى الجنة فورا لترتع بها”، حتى هذا الموت ليس من حقها، أما أولادها لاتعلم أين يذهبون بهم!
وفي كل مرة تسأل عنهم يجيبها “أنت تنتجي حميرًا ونحن نضعهم في الاسطبل، وعندما يكبروا نسوقهم للعمل على نقل العلف للأحصنة”
كان حلمها أن يرتقي بها إلى طابق فوق الأرض فقط! هي لاتريد الخروج واستكانت إليه وإلى قدرها! فقط تريد أن ترى أشعة الشمس، أن تشاهد إحدى السجينات مثلها، لقد كانت تسمع أحيانا أصواتهن وهن يعذبن مثلها، لكن كان يأتي صدى أصواتهن من فوق!
إذًا هي الوحيدة التي تسكن تحت الأرض! وعندما سألت َسجَانها عن ذلك لم ينكر هذا، قائلاً أن من سلمه إياها انتقل الى مكان آخر، والجديد لايعرف بها! وإضبارتها أُتلِفت، ولا أحد يعرف عنها سِوَاه! ولا أحد يستطيع النزول إلى هذا القبو، فقط هو، لأن الكل يعلم أن هذا القبو مسكون من الجَانّ!
بعد كل هذه السنين أصبح يرد على أسئلتها بحكم العشرة والتعذيب! قالت له إذا أنت (نفقت) ماذا سيكون مصيري ولا أحد يعلم أن في هذا القبو العفن توجد إنسانة وُكلت بتعذيبها، وقمت بمهمتك على أكمل وجه! هم أرادوا لها الموت على يديك، لكن حظك كان كبيرا أنها لم تمت، لتنعم بتعذيبها طوال حياتك، فكان رده أقسى من عذابها؛ إذا يكون مصيرك العيش بدون طعام ولاماء إلى أن تلحقي بي، وهنيئا لك هذا القبر الكبير لن يضيق عليكِ! في إحدى المرات حاولت قتله خنقًا لكنها لم تفلح وكانت تعلم مسبقًا أنها لن تفلح بذلك، لكنها أرادت أن تستفزه ليقتلها هو! و ترتاح من موتٍ رسمه لها، لكنه لم يفعل و أراد التلذذ بتعذيبها طوال حياته، إلى أن جاءته سكرة الموت ولفظ أنفاسه الأخيرة وهو يهم بوجبة تعذيبه الأسبوعية! والظلام يخيم على القبو إلا من ضوء بسيط من شمعة صغيرة أشعلها لكي يؤدي مهمته…
صرخت فرحًا وخوفًا؛ فرحًا لأنها أُحِيِلَت إلى التقاعد بموته! وخوفًا من مصيرها المجهول الآتي
هل ستخرج لترى النور ثانية؟ وهل ستتعرف على أحد من أهلها كم عمرها الآن؟ لاتعلم! لكن كانت تشاهد عمرها مرسوما على وجهه وبياض شعره! وهي أيضًا وإن لم تشاهد وجهها وشعرها منذ دخولها إلى هذا المكان أو هذا (المستنقع) لكن منذ أمدٍ بعيدٍ لم تعد (تحيض)! لاتذكر كم سنة مر على ذلك، وبدأ صراخها الجنوني يهدأ، وفجأة! وكأن ملاكاً يهمس في أُذنَيّها “خذي المفتاح من جَيّبهٍ وتحسسي الطريق على ضوء الشمعة قبل أن تنطفئ “
ومشت في سراديب طويلة إلى أن وصلت إلى السلالم، صعدتها وهي تضحك وتصرخ طالبة النجدة وانطفأت الشمعة لكنها تابعت الصعود متشبثة بالجدار إلى أن وصلت إلى باب حديدي، وجاءها بصيص نور من بعيد، واصوات تستوضح عن هذا الصوت والضجيج المنبعث من باب القبو القديم، وأخر ماسمعته أصواتا عديدة تتعوذ من الشيطان! وتقول أن جنيّة خرجت من تحت الأرض!
استيقظت بعد عدة أشهر كانت في غيبوبة! كما قالو لها، ووجدت نفسها في المشفى وحولها الممرضات يَبتسمنّ في وجهها وينادينها بالمرأة المباركة!
والكل يريد أن يعلم منها أهي من الأنس أم من الجنّ!
فوزيةالكوراني/ سوريا
التعليقات مغلقة.