سر الجميزة …..!! قصة قصيرة بقلم حمادة عبد الونيس
في كفر التعايسة درج الأهالي على تقبيل يد الوالي ثلاث مرات في اليوم ،عقاقير ولاء تحميهم من هجير الاستبداد ، يسبح المتولي بحمد “الباش أغا ” ملهبا ظهور الأشباح التي تجمع القطن في لفح الهجير تبتلع عرق جبينها مخافة أن يساقط على مقطف القطن فتعلق به رائحة الجوع فيضيق به” الخواجة” ذرعا فقد أصدر الوالي فرمانا يحرم من اختلط عرقه بما يجمعه من أجر “اليومية” وعليه أن يعمل أياما أخرى يحددها “المتولي” ردعا له وزجرا فلا يعود لمثلها وإن امتنع عن شرب الماء اتقاء للغرامة المضروبة والمحاكمة المنصوبة ويا تعاسة من وضعه المتولي في رأسه إنه الخولي المقرب لدي السرايا وكلمته مسموعة نافذة !!
كان الشيخ الرفاعي يقصد المسجد يشق دياجير الليل،تخرج الأذكار من فيه قناديل تبدد حنادس العتمة مبشرة بفجر صادق !
لم تخلف الديكة ميعاده ،ترقب خروجه من قاعته الرابضة في حضن الجميزة العتيقة ،ترصد حركات السائرين ليلا يتأملون الملكوت الفسيح ،تنبعث منها الأنوار نجوما سيارة تطرق أبوابا وتتجاهل أبوابا أخرى ،كم قصت الجدات المعمرات على الأحفاد والحفيدات من أنباء كرامتها ؛لقد التقى تحتها عمرو ابن العاص بعقبة بن نافع في رحلة الفتح المقدس فأخذتهما سنة فوق صهوة جواديهما فرأيا أهل مصر يدينون لهما بالطاعة ويدخلون في دين الله أفواجا ثم طويت لهما الأرض فلاحت حدائق قرطبة وقصور أشبيلية وخيول جيان أمام ناظريهما واقعا معيشا لا حلما متخيلا فنزلا من فوق فرسيهما وسجدا سجدة الشكر في لذة النصر والظفر !
لفت بذور هذه الجميزة ربوع المحروسة حتى كانت فسيلاتها ملاذ الفقراء والضعفاء إذا عم الوباء وطم الغلاء حتى إن الصالح نجم الدين الأيوبي نصحه الحكماء بالدهان من لبانها ساعة القيلولة في يوم الجمعة اليتيمة من شهر رمضان المعظم !
جرى النيل في طول البلاد وعرضها حارسا أمينا ورافدا لا تعييه العوائق ولا تمنعه الحوائل حتى اخضرت جوانبه حدائق ذات بهجة وبساتين تسر الناظرين !
كتب المرجفون سرا للوالي يحذرونه من جريان النهر فلا بقاء لعرشه مادامت أشجار الجميز تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ؛إنها مسكن آمن للحرافيش الذين يعيثون في الأرض فسادا ويعيشون غصة في حلق أسيادهم من سكان السرايا يؤلبون العوام ويأتون بالطوام وينتشرون بالليل كالهوام !!
طارت الركبان في الأصقاع بالأوامر العليا :
“اقتلعوا أشجار الجميز ،أحرقوا النخيل ؛ إنها تشرب ماء النيل، ويأوي إليها الجراد من شتى أنحاء البلاد !
لا تزرعوا التوت ولا أشجار الأخشاب،ازرعوا الأعشاب للأرانب والسنجاب فإنهما طعام شهي للأجانب ولا تمثل خطرا فلا يصنع منها العصي ولا “النبوت “!
فقد أخبرنا من العيون المخلصة أن الفئة المتلصصة تتحين الفرصة حتى تنقض فإن فعلت فلا راد لفعلتها ،وما أهوننا ساعتها على المعذبين !!
انتشرت الأوامر أصبح في البلاد ألف “متولي “وألف “خنفس “يرهبون الناس ويبشرونهم بأيام نحسات وليال سود ؛فعزم بعض المزارعين على بيع “الطين “وآوى بعضهم إلى ركن” الباش أغا “
يقدم الولاء والبراء متنازلا عن أرضه وبقيت ثلة كادحة تكره الوجوه الكالحة مقسمة بشرف الأجداد والآباء على عدم التفريط في الأرض فهي ليهم أخت العرض ومن هانت عليه أرضه هان عليه عرضه !
زاد ثراء المتولي وأصبح قيما على نزلة عرب “الكتاينة “وأبناء خؤولتهم أبناء “الخباص الفقير “
تحكي الجدة “أم السعد رزقه “وقد اتفق عليها أبناء أبنائها بإيعاز من آبائهم لمعرفة سر توغل المتولي وتوحشه داخل الكفر حتي بات الآمر الناهي !
تحملق في أحفادها وقد غارت عيناها ومحلت حواجبها وأطبق صدغاها على فكيها:
أصل الشر والفتنة أولاد المفضوحة؛باعوا أعراضهم وسلموا أراضيهم بلقمة ووعود كذابة من الباشا الكبير أغراهم بتتبع أهل الكفر وسرد أخبارهم كل ليلة داخل السرايا حتي نساء الفلاحين لم يسلمن منهم كان كبيرهم أبو “ودن”مخرومة ومناخير مفلطحة يصف بنات الحي واحدة واحدة حتي أغرى بهن بلاط الباشا فنهشت بطانته لحومهن في غطرسة وسفالة حتى كان ما كان يوم السبت الدامي !
خرج أولاد محمود وأولاد حسن بالنبابيت قاصدين السرايا ومعهم عرب الطواسنة ومعهم الفؤوس يريدون رأس الوالي لكن الغدار ابن الفجار أبو طربوش عيرة بلغ عنهم وقبض الثمن فحصدتهم بنادق الباشا حصد المناجل القمح في ساعات” القيالة “
لكن لم يسلم منها أبو كرش ولا زميله تملي الوسية ؛استيقظ الكفر كله على نار تتلظى أكلت فلذات أكبادهم وأكباد أتباعهم ستة شباب وست بنات!
لم تبق منهم الحرائق المجنونة سوى العظام متفحمة !
ومن يومها والناس يتطيرون من السبت الدامي وينعتونه بالسبت الأسود !
تلتقط الجدة أنفاسها وتخرج من صندوقها العاجي وثيقة الشرف التي كتبها أجدادها من بني صالح وفيها خرائط بأراضيهم ومع الخرائط حجة نحاسية؛كان الأحفاد قرابة العشرين حفيدا ملتفين حولها مشدوهين من هول ما لاقاه أجدادهم في أيام التيه الأكبر وقد جمعتهم امرأة بينما كان الناس سبحة غجر !
ازرعوا الجميز والتوت والكافور على ساحل النهر ،عمروا السواقي ،شموخ النخيل يعلمكم الثبات !
أنتم من سيقتلع أوتاد المتولي رغم أنفه على أياديكم سيلقى ذليلا حتفه!!
مئة عام مرت وأنا قابضة على الجمر حتى حفظت لكم أماناتكم فلا تفرطوا فيها !
الآن تطوى رحلتي وأنا راضية
اذكروني في صلاتكم وزوروني في قبري ؛ما أجمل أن نكون جميزة عتيقة ؛جذورها الماضي وساقها الحاضر وفروعها المستقبل تقوم على حافة النهر تحرسه ويرويها فإذا جن الليل كانت معشوقته الخالدة وكان محبوبها الأزلي!
كلما تغشاها حملت منه فجزءا أطعمته أفراخها وجزءا خبأته في باطن الأرض جنودا بواسل يتهيبهم العدو ساعة اللقاء.
التعليقات مغلقة.