زبيبة …. بقلم عبدالله عبدالإله باسلامه – اليمن / ذمار.
عندما فاجأته بالهجوم صقعني على رأسي فصفعته في قفاه، لطمني على خدي، لكمته في بطنه، ركلني، رفسته، زادنا اهتياجا رؤية الدم يسيل من أنفه كما بدأ يسيل من فمي. التحمنا، تشابكت أذرعنا، تداخلت سوقانا، ثبت كل واحد منا الآخر .. التقطت أنفاسي وأنا أبعد وجهي عن مرمى قبضة يده الجلفة، لففت ذراعي حول عنقه، والأخرى حول ظهره، قيدتها متحاشيا لكماته، أما هو فقد التفت إحدى ذراعيه حول فخذي، علق بها ساقي، ألقيت بثقلي عليه، شللت حركته، كلما دفعني شددت عليه، وكلما شدني دفعته، بقينا على وضعنا، نلهث من التعب، أخذ يترجاني أن أفلت عنقه، وأخفف عليه الخناق دون جدوى؛ كنت مصمما على انتزاع ما يخفيه، والانتقام لنفسي فقد نفد صبري .
طالما تربص بي في الطريق، أو بين أجمة الوادي، يفسد علي -دائما- فرص اللقاء، ومصارحتها بحبي وهيامي بها مذ كنا صغارا ندرس في الابتدائية، ثم مرافقتها إلى مرعى الجبال بعد أن أخرجها أبوها من الصف الخامس ترعى الأغنام، ثم الزموها البيت .
فاضطررت إلى قضاء يوم الجمعة في السفر من المدينة إلى القرية، وأن أتغيب عن دراستي الجامعية يوما إضافيا من أجل رؤيتها في الوقت الوحيد الذي تخرج فيه من البيت لجلب الماء .
أنتظرها في الوادي مع شروق الشمس، أنهل نظرة من روي محياها، وأرتشف لذة مراقبتها وهي تنسل بقدها المياس بين حقول الذرة وسنابل القمح. تتمايل بجرتها كغصين البان فتنسيني تعب السفر، وتهون علي ثمن العناء، ومشقة الانتظار، كما تنسيني ما أريد قوله، فأتخشب مكاني عاجزا عن التظاهر بأني مررت صدفة .
تستهل موردها بتحيتي بصوت خافت دون أن تنظر إلي كأنها تحيي صفحة الماء الزلال:
السلام عليكم ..
يخرج صوتي أشبه بالغمغمة:
وعليكم السلام .
الحمد لله على السلامة يا دكتور .
الله يسلمك يا زبيبة .. كيف حالك .
وقبل أن ترد، ترفع الجرة على رأسها بسرعة، تغادر مهرولة بحياء. أكتشف أن الخبيث من أفزعها كعادته يحوم حول المكان، يراقب تحركاتي، يلاحقني، يغيظني بتعليقات يطلقها أثناء مروري: البنات الحاليات بحاجة رجال مش شهادات.. البعيد عن العين بعيد عن القلب… أتجاهله بدوري، لكن كلماته تزرع أشواك القلق والشك في صدري، تقض مضجعي، فلم أعد أفقه حرفا، أو أجد لنفسي مستقرا إثر آخر زيارة همس كأنه يحدث نفسه : طابت الثمرة الحلوة والله طابت.. وحظك يا قوي الساعد …
سألت أمي يومها عمن يكون صاحب الساعد القوي الذي يحوم حول زبيبة، ردت بحدة :
مجرد إشاعات .
وأردفت بسرعة:
القرية تعلم بأن زبيبة لطبيب القلوب، ولن ينظر أحد إلى مثل عائلتها فحالهم مثلنا… لا تشغل نفسك يابني واهتم بدراستك.
كنت أدرك حجم فقرنا، وبعد رحيل أبي أصبحت مشروع أمي الذي سيجعل لها ولنفسه مكانة في القرية، وهذا ما كبح جماح أقراني المنافسين في التقدم لخطبة زبيبة، الأهم من ذلك زعيم القرية، الرجل القوي الذي طالما طمأنني وهو يشير إلى عنينه بحفظ زبيبة، وشجعني على مواصلة تعليمي لكن.. جمال هذه المخلوقة الآسر أصبح يؤرقني.
يومها لم أهنأ ساعة واحدة، عدت عازما على قطع لسانه، وعند النبع ظفرت به، أحكمت خناقه بساعدي، ثبته بقوة، ندور في مكاننا ككتلة واحدة، على ضوء الشمس الذي بدأ يغسل بنوره أرجاء الوادي، إذا بنا نلمح قدوم أحدهم، شعرت بضربات قلبي تتزايد، وشعر هو بما اعتراني من اضطراب، فتملص من قبضتي وهرب.
أصلحت بسرعة هندامي، وجلست أرنو إليها حتى وردت الماء.
السلام عليكم.. كيف حالك يادكتور .
كنت قد عزمت أن أسألها عن تلك الإشاعات، وأن أؤكد لها بأنها لي وحدي، وأن عليها ألا تبقى مسلوبة الإرادة، فهي مازالت صغيرة السن، وأن تلجأ إلى زعيم القرية في حال الضرورة فهو بمثابة أب، وأن تصبر علي حتى أتخرج…لكنها وقبل أن أرد عليها السلام رفعت الجرة، وغادرت متجهمة.
داهمني انقباض قاس، وظل شعور القلق يدهسني تالي الأيام حتى تلقيت اتصالا – من الخبيث ذاته – يضحك ويدندن بصوت غليظ عال وساخر: مسكين يا ناس من قالوا حبيبه عروس يابووووووي….
هرعت عائدا إلى القرية، لا ألوي على شيء سوى قتله، صفعتني رياح ليل عاتية قارسة البرودة، تجوس خلال الديار الغارقة في الظلام إلا من بيت زبيبة وبيت الزعيم ، الذي تخرج منه أصوات المزمار والزغاريد تزف إليه رابع زوجاته، تداعت قواي، وانهرت ملتجئا إلى خد صخرة ملساء، انزلقت داخل تجويفها الذي راحت جدرانه الصلدة تردد صدى نحيبي :
(مسكين يا ناس من قالوا حبيبه عروس
يابوووووي
يمرض مرض قلب أما الموت ما حد يموت
ياريح ياريح يا لي تدخلي ل البيوت
يابوووووي
قولي لمحبوب قلبي صاحبه بايموت
لا يشرب الما ولا ياكل من الزاد قوت
يابوووووي
ما قوته إلا زبيبة تعتقه لا يموت .
يا ناس لا تقبروني في عميق اللحود
يابووووووي
القبر في صدر خلي والعوالم شهود).
كلمات الشاعر / علي بن علي صبره .
خلدها بألحانه وصوته الموسيقار /
علي بن علي الانسي رحمهما الله .
التعليقات مغلقة.