عاشور الناجي …بقلم حمادة عبد الونيس
عثر عليه الأهالي الخارجين من مسجد مولانا الحسين قطعة لحم حمراء يصطرخ جوعا ،ينتفض انتفاض مهيض الجناح غفلت عنه ورهاء قليلة الحياة أسلمت نفسها للذئب وقد طعنت عقلها بسكين هواها فخسرت أغلى ما تملكه فتاة على وجه الأرض في رحلة البحث عن الذات !
ما فعلت هرة فعلتها وما تزيت كلبة بزي العار الذي سربلها من رأسها إلى أخمص قدميها ؛ ضريبة عمى البصيرة ضياع وسقط متاع ونفوس كسيرة لا ناقة لها ولا جمل لو كان لهذه المضغة المخلقة قدرة على الحديث والبوح لصرخ في وجه المنصرفين المبتعدين تحوقل ألسنتهم وقلوبهم من جلمود أصم قد قدت :”هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد “.
ما أرخص الرحمة حين تكون شعارات مزيفة وعبارات جوفاء لا روح لها ولا قلب !
أطنان الحروف المتراكبة في ثياب من البيان قشيبة لايمكن أن تروي من ظمأ أو تداوي من سقم أو تخفف من ألم !
لا يفل الحديد إلا الحديد ولا يطفيء الحريق إلا الماء المنهمر ؛تهامس الناس ،همهمات وغمغمات ،البرد فارس والجوع يكوي البراءة دونما رحمة أو شفقة،المغلوبون على أمرهم تحسبهم ألوفا وقلوبهم شتى !
اختلفت الأسباب والعلل ،فلسفة في غير موضعها وحكمة التحف بها السادرون في غيهم ، المروءة تنتحب، حكم القوي على الضعيف ،ذوات القدود والخدود بيدهن مقاليد الأمور ؛قد سلبن ذوي الشوارب القرار ومحض الاختيار :ربين في كهف الظلام الدامس :”لو كان الماء يمسكه الغربال،لكانت النساء وثقت في الرجال ..
جنازته…..ولا “جوازته “……!
من ذا الذي يأمن القنابل الموقوتة خلف الجدران الباردة ؟!
إيثار السلامة والانسحاب سريعا من المشهد برمته هو المخرج الآمن الذي استحوذ على الأجسام التي عشش الجبن في قلوبها وضربت القسوة بسياجها على أفئدتها المريضة !
يعود الحرافيش الذين خرج سوادهم الأعظم يخطب ود الرغيف ،يناجي الفران بإخبات وتودد!
الأكف مرفوعة نحو السماء في ضراعة
يعيش الصبي والعجان!
يحيا الخباز والفران
حفظ الله الفرن
ولا حرقت له سنابل في الجرن !!
نموت نموت وتحيا الطابونة
البقرة الحلوب وقوت القلوب
رغيفها طازج ليس فيه عيوب !!
عاشور الناجي يدور في الشوارع التي سكنها الجوع ،نخر السوس” نبوته” انحنى ظهره ،تشققت قدماه، ازرقت شفتاه،سكن القمل رأسه ، له عينان غائرتان تنسكب منهما الدموع محمرة أبى النزيف إلا أن يتخذهما موطنا!
خسر كل شيء لكنه مازال متمسكا بشعرات بيضاء من شاربه الذي كان يقف عليه الصقر !!
أمام محال الفول والفلافل تتزاحم الأشباح التي خرجت من البيوت حذر الموت كل يحرص على العودة بكيس فول يطعم به زغب الحواصل التي نامت قبل تناول العشاء بفعل فاعل فقد لف الظلام الشوارع وأسرعت كل أنثى إلى صغارها تقص عليهم نبأ أبي رجل مسلوخة صاحب الخطوة الذي يطلع على البيوت فيأكل آذان الصغار الذين لم يناموا !!
ضربت الشمس كبد الحي صبيحة الليلة الشاتية ،خلت الشوارع من الآدميين،إنهم يأكلون الفول قبل أن يلتهمه السوس ،
القطط تتجمع عبر مواءات ونداءات ،تلتف حول الجنين الباكي ،قمرا منيرا سبحان من سواه !
صلت الخالة “أمل” الضحى وعمدت إلى “دكانتها”
الملاصقة للمسجد لم تكن تملك إلا هذه الزاوية التي ورثتها عن زوجها أبي بناتها الثلاث !
النسوة يقفن طوابير ينتظرنها كل يوم يشترين ما يلزم البيت من سكر وملح وتوابل بالقرب منها محلان كبيران فيهما كل شيء يحتاجه البيت لكن الناس يحبون الخالة أمل بالرغم من غلاء أسعار السلع لديها فهي لا تبيع بسعر الجملة يتحدث عنها الزبائن بحب منقطع النظير:
نظيفة وقلبها طيب ،لا ترد سائلا أبدا ،بضاعتها فيها بركة وقد جربنا ذلك بأنفسنا ،بناتها مؤدبات جميلات : هند في كلية الطب ،تقف يومي الجمعة والسبت تساعد أمها في البيع لا تتكبر ،تقبل رأس أمها أمام الناس ولا تكلمها إلا خافضة لها جناح الذل من الرحمة !
الوسطى مريم في الثانوية العامة والصغرى ليلى في المرحلة الإعدادية متفوقة وتحفظ القرآن كاملا !!
خمسة عشر عاما منذ أن مات زوجها الأسطى محمد الأمين وهي لبناتها أم وأب ترعاهن وتوفر لهن ما يحتجن إليه تربية وتعليما ومعيشة !
ليس لها ولا لأولادها تموين ولا عيش مدعم ،حاول الكثيرون مد يد العون لها مساعدة لها على مطالب الحياة لكنها أبت أن تسقى بناتها شربة ماء من يد غريب،لم تتعلم لكنها حفظت عن زوجها أن الصدقة أوساخ الناس وترى أن اللقمة الممزوجة بالعرق شفاء من كل داء !
سألها الباحث الاجتماعي ذات مرة قائلا:
يا أم هند ،يحرص الأغنياء على الخبز المدعم ويلقونه للدجاج وطيور المنزل وأنت رافضة عمل البطاقة التموينية وبناتك أولى بحقهن ؟
يا أستاذي العزيز ،أولا :شكر الله لك حرصك على مصلحة أولادي!
لكن أنا لا أرضى أن تقف بنت من بناتي وسط الرجال تمد يديها في ذل ابتغاء أرغفة الجوع والإذلال!
لنا رزق يصيبنا إن أخطأناه ولن نجوع وربنا الله !!
وصلت “الدكان “فوجدت هندا قد فتحت ونظفت أمام المحل وعرضت البضاعة في الأماكن المخصصة لها لكنها لمحت دموعا عالقة في عينيها ؛فنادتها على عجل وقد نالها بعض وجل :
ما الأمر بنيتي ؟!
هل ضايقك أحد ؟!
لا يا أماه !
إذن ما الأمر ؟!
طفل يا أمي رضيع -سبحان الخالق البديع -في كرتونة أمام المسجد يتضور جوعا من قبل صلاة الفجر ،تركته الأيدي الآثمة نهبة للكلاب لم يهتم لأمره من أحد ، مر الناس أمامه ولم يعبئوا به ..!!
لو كان جوالا من دقيق أو كيسا من فاكهة أو مبلغا من مال لتشاجروا عليه !
إنه يشكو إلى الله قلوبا أشد قسوة من الحجارة!
القطط والكلاب شدوا رحالهم إلى جواره ،ما أرحم الحيوان بالإنسان !
ما أحقر الإنسان حين تضله النزوة وتعميه الشهوة ويتملكه الضياع !!
يا رحمة الله أدركي من شقوا بذويهم !
أدركي البائسين والمساكين الذين ساروا في طريق لم يختاروها وتحملوا خطايا لم يرتكبوها !
عادت الخالة “أمل “مسرعة ترجو النجاة لهذه الروح الشريدة !
ربي إنك تعلم ما في نفسي ،ولا أحد يعلم الغيب إلا أنت !
رزق سقته إلي يا ربي وقد قبلت الهدية !
احتضنت الجنين ذاكرة اسم الله عليه :
حدثت نفسها :
وما يدريك لعله يحفظ العيش والملح ،لعله يكون الناجي الوحيد في هذا الحي الذي مات رجاله وهم على قيد الحياة !
عاشور الناجي حبييب قلبي !
في قسم شرطة مصر القديمة سجلت بياناته وتعهدت وأقرت أمام السلطات أنها مسئولة عنه !
أذان الظهر يعانق السماء ،لسيدنا الحسين مريدون يأتون إليه من كل فج عميق،،أمام الضريح فتاة تبكي،تغسل الدموع وجهها ،تنتحب :
اللهم إنك قابل التوب ،غافر الحوب ،اللهم إني قد ألمت بذنبي وقد غلبت علي شقوتي حال شهوتي وإني تبت إليك وجعلت ما بقي من عمري وقفا على محبتك ولي فيك رجاء لا يخيب !
سرت أخبار الطفل في الحي وأعلنت الخالة أمل أنها تبنته رعاية وتربية وأسمته عاشور الناجي !
التعليقات مغلقة.