أوجاع مؤجلة …بقلم سيد جعيتم
عاد إلى القرية بعد خمسة وعشرين عاما من طرده منها، اصطحب معه وجعه فكان رفيقه المزمن
رغبته في الانتقام فاقت شوقه للقاء من أفنى عمره كله في حبها…
هرع الأهالي لاستقبال ولي نعمتهم، وقف بينهم مبتسمًا، يقارن بين استقبالهم له، ولعنه وقذفه بالحجارة يوم أن طرد بأمر من اللورد كبير القرية.
بدت واجهة بيوت القرية كالحة، حسن حبيبته كان يضفي عليها بهاء، ما زال طعم رضابها على شفاهه، ازدادت ضربات قلبه وضاق نفسه المتسارع عندما اقترب من القصر الوحيد بالقرية.
أمر بفتح الدهليز المؤدي للقبو أسفل القصر، داهمته الرائحة العطنة التي علقت بأنفه طوال سنوات غربته.
على ضوء الكشافات تحسس جدران القبو الرطبة، بدت المقابض والسلاسل الحديدة المثبتة بالجدران صدئة، صرخ الألم في كامل جسده، لم يبرأ من أثار القيود النفسية الطاغية عليه، ولم تفلح السنون في علاجها.
عاش المخاوف، لم تبارحه، مشوش أقضت الهلاوس مضجعه؛ ناضل لتظل صورة حبيبته واضحة جلية.
جلس وحيدا بالقبو المظلم وراحت صوره وهو عاري الجسد مشدود الوثاق بالقيود للجدران الرطبة تتسابق في عقله، أيام مضت دون طعام أو ماء، وكلما طلب الماء، يضرب بالسياط.
تجسد شبح الماضي في صورة اللورد قاسي القلب، وهو يجلده بالسوط وهو يلومه بحدة:
ـ أيها الكلب الحقير، كيف جرؤت على تدنيس جسد ابنتي، وتدنيس شرف عائلتنا.
ـ أريد جرعة ماء.
ـ تعلم ما سيحل بك، ورغم ذلك، أتيت واقتحمت قصري، وبلغت بك الوقاحة؛ أن تطلب الزواج منها، يا لك من غبي.
تحامل على نفسه ونطق:
ـ إنه الحب يا سيدي اللورد، جمع بين قلبينا، لا حواجز ولا فوارق فيه.
ـ طغى عطشه عليه فعاد يستعطف اللورد
فضلك اسقيني.
ـ فاجر ، لم تحسب حساب النتائج، كادت ابنتي تموت بتناولها السم من أجلك، ابتلع اللورد الحانق ريقه ثم عاد لجلده وهو يصب عليه لعناته، توقف لحظة التقط فيها أنفاسه، ضحك في سخرية:
ـ ما سأفعله بك سيجعلك لا تجرؤ أن تنظر في عين امرأة، ستشعر بالخزي والعار…
تقدم ابن عم حبيبته، والشماتة في عينيه، بخنجره نزع خصيتيه.
صرخ من شدة الألم، وانسحبت روحه مع نزيف دمه، أدركته رحمة ربه فأغمي عليه .
تم إلقاؤه جسدًا بلا روح على حدود المدينة البعيدة.
عثرت السيدة العجوز الثرية على جسمانه بين أكوام القمامة، عرفت أن روحه متمسكة بالحياة، نقلته لقصرها حتى شفاه الله، عرفت قصته طمأنته:
نجوت من القوم الظالمين. أخلص في خدمتها رعاها في مرضها، أورثته أملاكها.
في غربته عمل بجد ونمت ثروته حتى أصبح من كبار أثرياء المدينة.
في حجرته يأتيه ألمه المزمن يجعل عذابه حاضرًا.
أعوانه يبتاعون أرض ومباني القرية، أقام مشاريع ليعمل بها أهل القرية ، كان أكبر انتصاراته شراء قصر اللورد.
يعلم أنهم زوجوا حبيبته،
وأن أباها ما زال على قيد الحياة.
يمني نفسه بأن حبه في قلبها ما زال حيًا .
وقف في جمع لأهل القرية، ذكرهم بما فعلوه به، قال لهم:
ـ ماذا تظنون أني فاعل بكم.
صمتوا، نطق أحدهم:
ـ أخ كريم يعفو عن الضعفاء.
عدل عن طردهم من أعمالهم، ليثبت لنفسه أنه قادر على العفو.
أمسك أعوانه بأبيها وزوجها ، تصدى لهم شابًا قاومهم بشدة، اصطحبوه معهما.
أمر بتقيدهم في جدران القبو من أعناقهم وأرجلهم وأيديهم، اغلق القبو ووضع حراسة مشددة، بأن يظل باب القبو مغلقًا.
بعد أيام وافقت حبيبته على لقياه.
استعد للقائها، تعطر وتزين بأبهى الثياب، كم حلم بهذه اللحظة، يراها بخياله ترتمي في أحضانه، سيغفر لها زواجها من غيره، يكفيه أن يشعر بشذا نفسها الدافئ حوله، ويعيش في جنة عينيها.
دخلت عليه، تحيط بها هالة من النور، جذبها لأحضانه، ذاب في اللحظة:
ـ ازددتي جمالا حبيبتي .
بدلال قالت:
ـ أين احتفظت بمن فرقوا بيننا .
ـ خمسة وعشرون عامًا لم تغبي عن عيني لحظة واحدة، لم يفتر حبك في قلبي، ما زلتِ نبضات قلبي تنطق باسمك، لم تمر لحظة لم أبكيك فيها، اعيدي إلي حياتي .
ضحكت في ميوعة فأشعلت في قلبه حريق.
ـ أريد أن أراهم.
ـ جعلوا حياتي واقعا مرعبا لا نهاية له.
ـ أريد أن أراهم.
تبعته إلى القبو:
فور فتح القبو صدمتهما رائحة الموت .
سلطوا الضوء على وجوه المقيدين صرخت، أبوها وزوجها ميتان بينما ابنها يصارع الموت، والثلاثة عرايا وتم إخصائهم.
سارعت باحتضان ابنها، اسلم الروح بين يديها .
بدأت تنهار، فتح يديه يحتضنها ويحميها من الوقوع، اخترق خنجرها قلبه، وقع أسفل قدميها، صرخت في وجهه:
ـ قتلت ابنك يا روميو .
خالط صراخها ضحكات مجنونة.
بقلم: سيد جعيتم
جمهورية مصر العربية
التعليقات مغلقة.