غيبوبة حلم – سمية جمعة سورية
كلما حاولت الهرب،كانت تطاردني بنظراتها،
في الزوايا المظلمة ثمة خيال لطيف ما يزال يشتكي مر العتاب.
أذكر في آخر حديث لنا، كان ذلك قبل أن تدخل في غيبوبتها المتقطعة التي امتدت لسنوات طويلة قاسية، أمسكت يدي و شدتني إليها و كأنها تودع حبيبا تخاف أن يتركها،
ارتجفت ،و تسمرت في مكاني، كانت كلماتها تخرج حشرجة بالكاد فهمت ما ترمي إليه.
عقلها الباطني احتفظ بآخر سوء تفاهم بيني و بينها،
صبيحة ذاك اليوم، كانت الساحة أمام الدار مبللة بالمطر، و صرخاتها تعلو :
(الغسيل يا زكية ، سروال والدك غدا يوم الجمعة سيذهب به إلى الصلاة)
لم أسمع صرخاتها،كان القهر يملأ صدري، لم تدرك حينها حجم معاناتي، لم أستطع إخبارها بأنه قد رحل إلى دنيا كنت أود أن أسبقه إليها
تركتها في حلمها، و رحت أستكمل ما تبقى من أعمال،
صوت جارتنا و هي تدعوني لحفل زفاف ابنتها ،أعادني ليوم كان حلم أمي أن تراني فيه عروسة، كم مرة خبأت عني مفتاح خزانتها، كي لا أرى الأشياء التي خبأتها لأجل ذاك اليوم، كم حجاب عملته، و كم من فنحان قهوة قرئ عليه ، و دخلت أمي في غيبوبة و ما يزال ذلك الحلم عالقا في مخيلتها.
فساتين بيضاء كانت تزين غرفة نومها، و ألعاب صغيرة احتفظت بها، في آخر مرة عقدت جلسة مع الشيخ صابر،حاولت أن تطبق تلك الوصفة السحرية (ابنتك مسحورة ، و السحر في قبر )
رجعت مذهولة و راحت تفكر كيف ستذهب للمقبرة؟ و من سيساعدها؟
حل الظلام ، و تسللت عبر جنحه، اختبأت كي لا تشعر بوجودي، رحت أراقبها و أمشي خلفها، أصوات الكلاب تثير الرعب، و حارس المقبرة أومأ لها بالرجوع، اقتربت منه و همست ، أوقفها و لكن يدها امتدت ببضع نقود لتدسها في يده.
رجعت مستبشرة ،تتمتم بآيات من سور مختلفة، ضمتني بقوة، مسحت على شعري، انسحبت من حضنها و الدموع في عيني، دلفت لغرفتي ،حاولت ترتيب الكتب في المكتبة، لحقتني،
:- (هذه الكتب قضت على مستقبلك)
لم أرد عليها،فهي أم أولا و أخيرا،هاجسها الاطمئنان على مستقبلي.
في ذاك الصباح استيقظت على صوت أمي و هي تنادي :-زكية اليوم عرس خلود أريدك ان تكوني أجمل الجميلات.
:- ماذا عرس من؟
:- ألا تعرفين بأن خلود من جيل بناتي لو أنا تزوجت؟
:- أعرف أعرف، هناك أم محمد تعرفين بأن محمد طلق زوجته،
:- ماذا تقولين يا أمي؟
يا الله! كم أشفق عليها؟تريد تزويجي و أنا الرافضة من قلبي، فكلما كانت تدعو كنت أقول في سري
:- اللهم لا تستجب.
في تلك الليلة الأخيرة من شهر رمضان، اجتمعت النسوة في بيتنا بناء على دعوة أمي لإقامة الصلاة و ختامها بقراءة مولد ، أمي بلباسها الابيض،ووجهها الجميل وخدودها المتوردة ، التي طالما أثارت تساؤلي ليتني كنت شبهها، كنت سمراء لجدي، و قامتي الممشوقة لعمي،و حمدت الله بأني لم اكن قصيرة كأبي.(الطول على النخيل لو ينفع كان نفع زكية)هذا ما تردده أمي على مسامعي.
في عينيها كنت أقرأ جمال ملامحي التي لم أعرها اهتماما أبدا،
كانت تراني الجميلة بين أقراني ،لطالما نفت عني تلك الصفة التي يرددها الناس
:- (عانس) يا حرام لا ينقصها شيء
:- (الناس ما فيها نظر)
كنت أهرب من تلك التساؤلات، و أجد ضالتي في قراءة كتاب، في حكاية كل بطلة أنا، العاشقة من طرف واحد، الزوجة الثانية المحبة، و تُطِل تلك الشخصية التي أحببتها ، حب روحاني مع فارق التوقيت،المكان بعيدا و الزمان على مقعد في حديقة الجامعة.
راحت الأفكار تنقلني ، و أمي الغائبة الحاضرة ، أقرأ في عينيها شغفها بأن أكون أما ،لطالما رددت
:- (زكية حنونة تستاهل تكون ام)
أضحك في سري ،
:- ليتك تعلمين يا أمي بأن الوقت فات، و لكن
لو أنك على قيد النبض كنت سأبشرك بأني سأوافق على ابن أم محمد رغم الفارق بيننا، سأضع الشهادات جانبا،سأنظر في المرآة علني أرى ملامح الأنثى داخلي، و كلمات رجل ربما تهزني.
تمت الموافقة ، و بدأ التفكير ،
:- ( يا الله كيف أكون أما لأطفال و أنا المدللة )
بداالأمر بالنسبة لي صعبا، ووجود رجل في حياتي هو الأصعب، مر الوقت ، كنت خلال تلك الفترة مغيبة تماما، فكرة واحدة تسرقني من زكية
:- ( لا لا أعوذ بالله ،لا احد سيشاركني وحدتي ،عالمي الذي أعشقه،كيف قلت نعم و أنا غير مستعدة ، مجرد أن أفكر بأن أحدهم سيلازمني أينما كنت هو المستحيل)
نظرات أمي المرتاحة رغم غيابها المتقطع عن الوعي يجعلني مطمئنة إلى هكذا قرار، وكان للإستخارة سحرها في زواج سعيد.
اثناء غيبوبتي القصيرة بعد أن وضعت طفلي الأول–تلاقيت بوالدتي في استفاقاتها المتقطعة
عيناها المتوهجتان استقبلت البشارة
عانقتني مباركة ونامت للأبد.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.