الضوء الشارد…بقلم د.طارق فرج إسماعيل
كان يجلس وحيداً..وراء الستائر الرمادية..في مقعده الخاص أمام النافذة الكبيرة التي تطل علي الحديقة الخالية إلا من اللون الأخضر الباهت الذي يكسو الأرض..
لم تكن هناك ورود..لم تكن هناك أشجار ولا أغصان..وربما لم تكن هناك طيورُُ أيضاً!!
ليس هنالك أصعب من أن ترجع من المقابر بعد أن تواري أحبابك التراب..
ترجع وقد أُغلقت عليك الأبواب..وتظن أنك ستبدأ في النسيان ..والتعود علي الإفتراق!!
كم مرة رجع من المقابر؟؟..مرة..إثنان..ثلاثة!!.ربما أكثر!!
يشعر كأنه مخدر!.. لا يشعر بحرارة الشمس..ولا التراب الذي يجتاح المكان..
ولم يشاهد وسط كل الوجوه إلا من يحمله الناس إلي تلك الحفرة في التراب.. وتستقبله باطن الأرض !
كان يجلس حائراً عندما أدرك أنه تشبع من الصمت المحيط به..
إنفتح باب غرفته المظلمة التي يجلس بها.. لم يدر بالوقت.. ربما مرت عليه ثلاثة أو أربعة ساعات بعد أن رجع من صلاة الجنازة بعد صلاة العصر..لم يخلع نعله الذي تعفر بتراب المقابر.. لم يغير قميصه الذي ملأ غرفته برائحة الكافور والمسك.. واختلط بالعرق المختنق..والدموع التي تاهت علي صدره !!
إنفتح باب غرفته.. سمع صوت مفاصل الباب وهي تئز !!
طالما ضايقه هذا الصوت ..كأنه شوكة في ظهره أو نحلة تطير أمام أذنيه !! كان لا يحب أن يفتح باب غرفته ببطء حتي لا يسمع الأزيز المزعج..
وكان الباب ثقيلاً.. لا يفتحه بسرعة إلا زوجته أو إبنه الذي تجاوز العشرين عاماً..
كان ابنه مثل الرجل الصغير.. يتباهى دائماً بعضلاته المفتولة أمام زملائه في الكلية !!
وكانت زوجته تدخل عليه أحيانا ببعض الطعام أثناء كتابته التي تستمر إلي الساعات الأولي من الصباح..
كان يعرف من يفتح الباب من خطواته !!! ومن صوت أزيز الباب..
إنفتح ببطء.. واندفع الضوء الخارجي من أمام الباب لينزلق علي أطراف غرفته وكأنه يغتال الظلمة التي أحاطت به.. وبمقعدة.. وبنافذته!!!
لم يلتفت إلي الخلف.. يعرف صوت دبيب أقدامها الصغيرة التي تقترب منه ببطء..يعرف أنها ستنظر إليه من علي يمينه.. يعرف أنها ستميل برأسها فقط لتنظر في عينيه وتتأمل تعبيرات وجهه.. وقد فعلت !!
بابا..هو صحيح ستو راحت عند ربنا !!
نظرت بضع دقائق إلي وجهه..
بابا.. إنت زعلان؟..هو مش عند ربنا كويس؟؟
لم يرد عليها… وأخذ نفساً عميقاً..
بابا..”واختنق صوتها بالبكاء”
سوسن..طفلته البريئة.. لا تأكل إلا من يده !! ولا تنام قبل أن يقبلها قبلة المساء !!
تسميها قبلة العصفورة..لأنها مازالت صغيره !!!!
سوسن.. بضفائرها القصيرة .. وشعرها الأسود اللامع الغزير وشريطتها الزرقاء.. ودموعها التي سالت علي كفه ..كان يمسك بمسبحته التي لم تفارق يده بعد صلاة العصر.. كانت هدية من أمه.. اشترتها له في العمرة الأخيرة..
بابا.. إنت بتبص علي إيه في الشباك؟؟.. علي النجمة دي؟؟
خرج من سكونه.. اندفع الهواء المكتوم في صدره في زفير طويل ..
أيوه ياسوسن.. ستو ساكنة دلوقتي في النجمة الكبيرة دي..
بس وحشتني قوي….
طيب يا بابا… يللا نسيبها تنام…
لحظات من الصمت ملأت المكان.. وامتزجت بالظلام في أركان غرفته..
وعلي نافذته..
جذبته سوسن من إصبعه.. بكفها الصغير..
وبينما هو يتحرك معها ببطء.. امتدت يده الأخري لتغلق الباب..
مفصل الباب ما زال يئز..
لم يبق علي زجاج نافذته المظلمة سوي الضوء الشارد من النجمة الوحيدة في عرض السماء..
والتي ازداد لمعانها.. حتي أغلق الباب علي غرفته.. ونافذته.. ومقعده..
والنجمة التي تسكنها أمه.
التعليقات مغلقة.