رجال في الإسلام … بقلم/ مدحت رحال
يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده
ثائر بالفطرة
من ( غفار ) خرج / جندب بن جنادة
(( أبو ذر الغفاري ))
دخل مكة متنكرا يستشرف أخبار هذا الرسول الذي ظهر في مكة ،
وجده واقترب منه وسمع منه .
لم يفكر ولم يتردد وشهد شهادة الحق .
ورأى كيف اكتسى وجه الرسول بالدهشة والعجب :
غفار قطاع الطرق يخرج منها أبو ذر !!
ويأبى أبو ذر إلا أن يكون أول من يصيح صيحة طبقت أرجاء مكة وزلزلت أركان زعمائها .
يدخل المسجد الحرام وينادى بأعلى صوته بالشهادتين .
فيجتمع عليه مشركو مكة ضربا حتى صرعوه لولا أن العباس أنقذه من بين أيديهم بالحيلة .
هذه النفس الثائرة المتمردة ، هي التي سترسم منهج أبي ذر وتحدد خطاه في مستقبل أيامه ،
ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ،
وذات يوم تستقبل المدينة صفوفا طويلة من المشاة والركبان ، مهللين ومكبرين .
إنهما قبيلتا / غفار وأسلم ، جاء بهم أبو ذر مسلمين ،
وباركهما الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
غفار : غفر الله لها ،
أسلم : سالمها الله
لقد لخص الرسول الكريم حياة أبي ذر في هذه الكلمات :
( ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر )
ويرى الرسول عليه السلام ببصيرته كل المتاعب التي سيجلبها على أبي ذر صدق لهجته فيقول له في معرض حديث معه :
( اصبر حتى تلقاني )
ويحفظ أبو ذر الوصية فيصبر ولا يحمل السيف ،
ولكنه يجعل لسانه سيفا في مواضع الحق ،
وينقضي عهد الرسول وعهد العمرين ،
وتأتي الفتوح الإسلامية تدق ناقوس الخطر ،
توشك الدنيا بزخارفها أن تفتن الناس ،
وهذا ما حذر منه الرسول عليه الصلاة والسلام وخاف على أمته منه :
( ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخاف أن تقبل عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) أو كما قال .
ويخرج أبو ذر يقرع معاقل السلطة والثروة بصوته .
ناعيا عليهم ما يراه من زيغ عن الحق واستئثار بالسلطة والمال .
حتى لقد ضاق به / معاوية ابن أبي سفيان – حاكم الشام ، مع ما هو معروف عنه من حلم ،
فأرسل إلى الخليفة عثمان بالمدينة يقول :
( إن أبا ذر أفسد الناس بالشام )
فيستدعيه الخليفة إلى المدينة ،
ويقول أبو ذر للخليفة بعد حوار طويل :
( لا حاجة لي في دنياكم )
ويستأذن الخليفةَ بالخروج إلى ( الربذة ) فيأذن له،
قد يبدو أبو ذر مبالغا في موقفه من الحكم والثروة،
ولكن لأبي ذر منطقه الذي يشمله صدقه مع نفسه ، فيقف بسلوكه ورؤاه عند المستوى الذي خلفه لهم رسول الله وصاحباه ، وإن كانت تلك مثالية لا يُدرك شأوها ، فقد عُرضت عليه الإمارة فرفضها ،
وفي الربذة ، يقضي أبو ذر ما بقي له من عمُر بعد خلافه مع عثمان ،
ويأتي اليوم الموعود ،
وإذا بأبي ذر يعالج سكرات الموت ،
وبجانبه سيدة سمراء ضامرة تبكي هي زوجته .
ويسألها فيم البكاء والموت حق ؟
فتجيبه بأنها تبكي لأنه يموت وليس عنده ثوب يسعه كفنا !!!
ويبتسم ويقول لها :
اطمئني ، فقد سمعت رسول الله يقول ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه :
ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، تشهده عصابة من المؤمنين
وقد مات كل من كان في المجلس في جماعة وقرية ، ولم يبق غيري ، وها أنا أموت بفلاة ، فراقبي الطريق ،
فوالله ما كَذَبتُ ولا كُذِبت ،
وفاضت روحه إلى الله ،
ولقد صدق ،
فها هي قافلة من المؤمنين تغذ السير في الصحراء وعلى رأسهم الصحابي الجليل / عبد الله بن مسعود .
ويقف عبد الله على الجثمان الطاهر ويقول :
( صدق رسول الله ، تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتُبعث وحدك ) .
نبوءة قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حين تخلفت بأبي ذر راحلتُه ،
فحمل متاعه على ظهره ولحق الجيش على قدميه ،
ولما بدا شبح شخص من بعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( كن أبا ذر )
ولما اقترب القادم فإذا هو أبو ذر ،
فقال الرسول تلك المقولة التي حفظها الصحابة :
( تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك )
وتحققت النبوءة .
مدحت رحال ..
التعليقات مغلقة.