قصة قصيرة:( الأب ميلون Le père Milon) للأديب الفرنسي الراحل جي دي موباسان Guy de Maupassantترجمة: عاشور زكي وهبة -مصر
قصة قصيرة:( الأب ميلون Le père Milon) للأديب الفرنسي الراحل جي دي موباسان Guy de Maupassantترجمة: عاشور زكي وهبة -مصر
( 1 )
منذ شهر تلقي الشمس الرحبة نارها الحاميّة على الحقول، وتتفتّح الدنيا مُشرقة أسفل هذا الوابل المُلتهب، وعلى امتداد البصر تبدو الأرض خضراء حتى أقصى حدود الأفق حيث السماء الزرقاء.
ومن بعيد تظهر المزارع النورمانديّة المغروسة في السهول كغياض صغيرة تحيط بنطاقها أشجار الزان فارعة القوام.
أما من قريب حينما ينفتح الباب النخر نتخيل رؤية حديقة عملاقة تزدهر بها كل أشجار التفاح العتيقة عظميّة الهيكل كهيئة غارسيها. أمّا الجذوع الهرمة السوداء المعقوفة العوجاء المُتراصّة عبر الفناء فتبسط قبابها الزاهية باللونين الأبيض والورديّ تحت السماء. ويختلط عطرها الزكيّ الرقيق المزدهر بالروائح الدسمة للزرائب المفتوحة، ومع أبخرة الزبل المُهتاج بعبث الدجاج.
في الظهيرة تتناول الأسرة غداءها تحت ظلال شجرة الكمثرى المغروسة أمام الباب: الأب والأم وأطفالهما الأربعة إلى جانب خادمتين وثلاثة من الخدم.
قلما يتحدثون أثناء تناول الحساء، ثمّ يعكفون على طبق عامر بالبطاطس المقلية بشحم الخنزير. وبين الفينة والفينة تنهض خادمة دالفة إلى المخزن لتملأ الإبريق بالسدر.
ربُّ الأسرة كهل أربعينيّ يتأمل كرمة عنب تنتصبُ متسلّقة في مقابل منزله وتتلوى كإفعوان أسفل المصراعين وعلى امتداد الجدار، ثمّ قال أخيرًا:
_ إنّ كرمة أبي تتبرعم باكرًا هذا العام، ربما ستطرح عناقيدها قريبًا!
التفتت الزوجة أيضًا للخلف ونظرت دون أن تتفوه ببنت شفه.
لقد غرسَ هذه الكرمة تحديدًا في نفس الموضع الذي أُعدِم فيه أبوه رميًا بالرصاص.
حدث ذلك أثناء حرب 1870 حينما كان البروسيّون يحتلون البلاد، وكان الجنرال «فيديرب» يقاومهم بجيش الشمال؛ في حين كان أركان الحرب البروسيّ كامنًا في هذه المزرعة التي كان يمتلكها هذا العجوز _ الأب ميلون پيير _ الذي استقبلهم وأنزلهم فيها قدر استطاعته وبالغ جهده.
ومنذ شهر كانت طليعة الجيش الألمانيّ في القرية للترصّد والمراقبة؛ بينما ظلّ الفرنسيّون بلا حراك على بعد عشرة فراسخ منها.
وفي غضون ذلك كان الفرسان المرتزقة البروسيّون يختفون كلّ ليلة دون رجعة، كما أنّ كلّ الكشّافة المنفصلين عن وحداتهم- أولئك الذين كان يتمّ إرسالهم في دوريّات تفتيشيّة- بمجرد أن يرحلوا في ثنائيات أو ثلاثيات كانوا لا يرجعون أحياءً أبدًا…
في كلّ صباح كان يتم جمعهم موتى داخل أحد الحقول، أو في طرف أحد الأفنية، أو داخل حفرة هاوية. في حين كانت جيادهم ترقد صريعة على امتداد الطرق منحورة بضربة حسام بتّار.
كان من الظاهر أنّ هذه الاغتيالات قد اقترفها نفس الأشخاص الذين لم يكن في الإمكان الكشف عن هوياتهم.
رُوِعت البلاد، وكان الفلاحون يُعدمون رميًا بالرصاص على أتفه الوشايات، كما سجنوا النساء؛ ومن فرط رعبهم كانوا يريدون الحصول على اعترافات من الأطفال دون أن يتمكّنوا من اكتشاف شيء من الحقيقة.
لكن ذات صباح لُمِحَ الأب «ميلون» مُمدَّدًا داخل إصطبله مشجوج الوجه من أثر ضربة ما. كما تمّ العثور على فارسين بروسيين مبقوري البطن على بعد ثلاثة كيلو مترات من المزرعة حيث كان أحدهما لم يزل قابضًا على سلاحه المُخضّب بالدماء، مما يُثبِت أنه قُتِل أثناء دفاعه عن نفسه.
تمّ تشكيل مجلس حرب على الفور في العراء أمام المزرعة حيث اُقتيد العجوزُ سجينًا.
كان يبلغ من العمر ثمانية وستين عامًا. كان قصيرًا نحيفًا معقوف الظهر قليلًا، يمتلك يدين طويلتين تشبهان كلّابات السرطان. وكان شعره كابيّ اللون، وكان قليلا خفيفا كزغب صغار البطّ؛ بحيث كان لون قمة رأسه الأبيض الوردي ظاهرًا من جميع الجهات.
أمّا جلد عنقه فكان داكنا مُتغضّنا تظهر أوردته ضخمة عند الصدغين ومختفية أسفل الفكّين.
كانوا يحسبونه في المنطقة بخيلًا صعب الإرضاء في التعامل التجاري. أوقفوه بين أربعة جنود أمام مائدة المطبخ التي حملوها إلى الخارج، حيث وقف في مواجهة خمسة ضبّاط وعقيد.
وقد خاطبه العقيد بالفرنسيّة قائلًا:
أيها الأب ميلون! منذ مجيئنا إلى هنا لم يسعنا إلا الرضا عنك، إذ كنت دومًا لين الجانب وودودًا معنا أيضًا. لكن اليوم ينقضُ ظهرك اتّهامٌ فظيع مريع.. وينبغي أن تتجلّى الحقيقة.. فكيف أُصِبتَ بهذا الجرح الغائر في وجهك؟
لم يحرِ العجوز جوابًا.
فعاود العقيد السؤال:
_ صمتك يدينك أيها الأب ميلون! لكنني أريد منك إجابة.. هل تسمعني؟ هل تعرف من الذي قتل الفارسين البروسيين اللذين تمّ العثور على جثتيهما هذا الصباح بالقرب من «كالڨير»؟
أجاب العجوز بصوت واضح وصريح: أنا.
صمت العقيد مذهولًا للحظة مُمعِنًا النظر في السجين الأب ميلون الذي ظلّ هادئ البال وتظلله هيئة البله الفلاحي خافضًا عينيه كمن يعترف لراعي كنيسته. وكان الشيء الوحيد الذي يُظهِر اضطرابه الداخلي، أنه كان يبتلع لعابه دون انقطاع كما لو كان مخنوقًا تمامًا.
كانت عائلة الرجل البسيط المكوّنة من ابنه «جان» وكنته وحفيديه يمكثون على بعد عشر خطوات إلى الخلف، وقد استولى عليهم الذعر والذهول.
عاود العقيد السؤال:
_ هل تعرف أيضًا من الذي اغتال كلَّ كشافي الاستطلاع لجيشنا الذين نعثر عليهم كل صباح في أنحاء القرية منذ شهر؟
ردّ العجوز بنفس رباطة الجأش الوحشيّة: أنا.
_ هل أنت الذي قتلتهم جميعًا؟
_ أجل أنا قتلتهم كلهم.
_ أنت بمفردك؟
_ أنا لوحدي.
_ قل لي إذًا، كيف هاجمتهم وقتلتهم؟
بدا الرجل هذه المرّة مُنفعِلًا؛ إذ أن ضرورة الحديث المتواصل لمدّة طويلة أزعجته بشكل واضح، فأجاب مُتلعثِمًا:
_ هل أعرفك كل شيء أنا؟ لقد فعلت ذلك كيفما اتّفق معي.
أعاد العقيد القول:
_ أُعلِمُكَ أنّ من الواجب عليك أن تحكي لي كلّ شيء. فمن الأفضل لك أن تقصّ علىّ بالتفصيل كيف بدأت جناياتك؟
ألقى العجوز نظرة قَلِقَة نحو أسرته المشدوهة خلفه، وتردّد برهةً ثمّ حكى فجأةً بالتفصيل:
( 2)
_ “أتذكرُ في اليوم التالي لمجيئكم هنا- أنتم وجنودكم- ربما كانت الساعة العاشرة مساءً.. وأذكر أنكم خلطتم خلطًا كبيرًا معي في الثمن فيما يقل عن خمسين ريالًا لعلف بقرة وخروفين.. فقلت في نفسي:” كلما يغالطونني في كلّ مرّة في عشرين ريالًا فسوف أعاملهم بالمثل”. ثمّ أضمرتُ لكم أشياءً كثيرةً في قلبي، سوف أحكيها لكم…
فإذا بي ألمح أحد فرسانكم يدخن غليونه فوق الخندق الواقع خلف شونتي، سحبت منجلي الكبير وعدتُ بخطًى وئيدة خلفه بحيث لم يشعر بي أبدًا، وفصلتُ رأسه بضربة واحدة كالسيف؛ حتى أنه لم يتأوه قط. وما عليكم إلا البحث في قاع البِركة، سوف تجدون جثته داخل كيس فحم بمعية أحد أحجار السدّ.
وجاءتني فكرةٌ أن استحوذ على أغراضه العسكريّة بدءًا من حذائه حتى قلنسوته، وأخفيتها في قمينة الجبس الواقعة في غيضة «مارتان» خلف الفناء”.
صمت العحوز، وتطلّع الضباط إلى بعضهم البعض منذهلين…
وبدأ محضر الاستجواب من جديد، وهذا ما دوّنوه فيه:
ذات يوم اقترف العجوز جريمة القتل دون أثر يدينه، واختمرت في ذهنه هذه الفكرة الفظيعة: ” اقتلْ البروسيين! “.
لقد كان يمقتهم مقتًا دفينًا وعنيفًا.. مقت فلّاح جشع ومُحبّ لوطنه في نفس الوقت. ولقد كان لديه تصوّر ذهنيّ كما قال، وانتظر بضعة أيام…
ولقد تركناه حُرًّا طليقًا في ذهابه وإيابه، وحين ولوجه وخروجه حسب رغبته حتّى أنه أظهر نفسه مذعنًا خاضعًا لقاهريه المنتصرين، وكان مطيعا لهم ولطيفا مهذبا معهم إلى حدّ بعيد. وهكذا كان كلّ مساء يرى رحيل الفرسان المبعوثين، وخرج ذات ليلة وهو على علم يقيني باسم القرية التي سيذهبون إليها، وقد تعلّم من خلال مخالطته للجنود بعض الكلمات الألمانيّة اللازمة.
خرج من بيته ثمّ ولج في الغيضة حتّى وصل إلى قمينة الجبس، وتوغّل في عمق السرداب الطويل حيث عثر على ملابس الفارس القتيل ولبسها.
آنذاك بدأ يجوس خلال الحقول هائمًا في إتجاه المنحدرات للتخفي، مُرهِفًا السمع لأدنى الهمسات، قَلِقًا كصيّاد مُخالِف.
وحينما أدرك ساعة وصول الفرسان، اقترب من الطريق مُتخفّيًا في إحدى الآجام يترقبُ.
وفي النهاية نحو منتصف الليل دقَّ عدوُّ فرس على أرض الطريق الصلبة. وضع العجوز أذنه على الأرض ليتأكد أنّ فارسًا واحدًا يقتربُ، ثمّ تأهبَ للهجوم حيث كان الفارس البروسي قادمًا بعدوّ سريع حاملًا برقيات للقيادة، وكان يمضي ببصر حديد وسمع مرهف. وبمجرد أن كان على بُعد عشر خطوات جرَّ الأب ميلون قدميه في عرض الطريق متأوهًا بالألمانية: ” النجدة! النجدة! أرجو المساعدة! “.
فتوقف الفارس مُقِرًّا أنّ جنديًّا ألمانيًّا جندلته الإصابة يستصرخه، فهبط من على جواده مُقتربًا دون أدنى شكّ، وما إن انحنى على المجهول الذي عاجله بضربة بنصل سيفه الطويل المعقوف في منتصف البطن جعلته يسقط أرضًا دون احتضار مُرتجًّا بفعل خروج الأنفاس الأخيرة.
في هذه اللحظة يشرقُ وجه النورمانديّ بفرح أبكم لفلاح عجوز، فينهض ولأجل تعطشه للقتل يذبح الجثّة ثمّ يجرّها حتى الهاوية، ويلقها فيها.
أمّا الحصان الهاديء الذي كان ينتظر سيده يمتطيه« الأب ميلون» ويرحل عدوًا عبر السهول…
( 3)
وبعد ساعة يلمح «الأب ميلون» فارسين بروسيين يسيران جنبًا إلى جنب راجعين إلى ثكنتهما العسكريّة فيتجه نحوهما مباشرةً صائحًا بالألمانيّة:” النجدة! النجدة! “.
يدعه البروسيّان يدنو منهما ويتعرّفان على زيّه العسكريّ دون وجل، فيندفع العجوز بينهما كالقنبلة قاتلًا أحدهما بسيفه والآخر بمسدسه، ثمّ ينحر الجوادين.. الجياد الألمانيّة!
ثمّ يعود ببطء إلى قمينة الجبس، ويُخفي حصانه في عمق السرداب المُظلم، ويخلع الزيّ العسكريّ، ويرتدي أسمال الشحّاذ عائدًا إلى فراشه لينام حتّى الصباح.
ولا يخرج من المنزل لمدة أربعة أيام لحين انتهاء التحقيق المفتوح؛ لكنه في اليوم الخامس ينطلق ويقتل جنديين أيضًا بنفس الحيلة.
ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن القتل…
كان كلّ ليلة يهيم على وجهه مُتسكّعًا بلا هدف يغتال البروسيين تارةً هنا وطورًا هناك راكضًا بحصانه عبر الحقول الجرداء في ضوء القمر كفارس بروسيّ تائه يصيد الرجال.
ثمّ تنتهي مهمته تاركًا خلفه جثثًا راقدة على امتداد الطرق، ثمّ يعود الفارس العجوز ليخفي حصانه وزيّه العسكريّ في أعماق قمينة الجبس.
وعند اقتراب الظهيرة يعود بهدوء حاملًا الشوفان والماء لمطيته الرابضة في عمق السرداب حيث يطعمها ببذخ تحسبًا لعمل شاقّ.
لكن في عشية الأمس كان أحد الفارسين اللذين هاجمهما قد اقتفى أثره وشجّ وجه الفلاح العجوز بضربة سيف.
في غضون ذلك قتل الاثنين ثمّ عاد ليخفي الفرس ويرتدي أسماله الحقيرة؛ لكنه عند العودة قهره الضعف فَجَرَّ قدميه حتّى وصل إلى الإصطبل، ولم يعد قادرًا على الوصول إلى المنزل.
وهكذا عثروا عليه مُمدّدًا مُخضّبًا بالدّمّ على تبن الإصطبل…
حينما انتهى العجوز من قصّته رفع رأسه فجأةً ناظرًا بفخرٍ إلى الضبّاط البروسيين.
فسأله العقيد الذي كان يعبث في شاربه:
_ هل لديك أقوال أخرى؟
_ كلّا! لا شيء! لقد استوفيت الحساب، لقد قتلت منكم ستة عشر لا أزيدَ ولا أقلَ!
_ هل تعلم أنك سوف تموت؟
_ لم أطلب منكم عفوًا.
_ هل كنت جنديًّا؟
_ نعم. لقد قمتُ بحملة عسكريّة في الماضي. ثمّ أنتم الذين قتلتم والدي الذي كان جنديًّا في جيش الإمبراطور الأول؛ زيادة على ذلك أنتم من قتلتم ابني «فرانسوا» الذي يلي ابني الأكبر الشهر الماضي بالقرب من «إڤروى». لقد دفعتم ما عليكم.. نحن متعادلان.
تبادل الضُبّاط النظر إلى بعضهم البعض، وأكمل العجوز:
_ ثمانية منكم مقابل أبي، وثمانية مقابل ابني.. نحن متعادلان.. أنا لم أتحداكم؛ بل لم أكن أعرفكم أبدًا، ولم أكن أعرف من أين أتيتم، وها أنتم أولاء في بيتي… فبماذا تحكمون إذا كنت عندكم.. لقد انتقمت لمقتل الآخرين، ولستُ نادمًا…
عدّلَ العجوز جذعه المقسوط، وشبّكَ ذراعيه في هيئة بطل مُتواضع مُهذب.
تهامس الضُبّاط البروسيّون طويلًا، وكان أحد القادة من بينهم قد فقد ابنه الشهر الماضي يدافع عن هذا المتسوّل الشهم نبيل النفس.
حينئذ وقف العقيد واقترب من الأب ميلون وحدّثه بصوت خفيض:
_ اسمعني أيها العجوز، ربما توجد طريقة واحدة لإنقاذ حياتك وهي…
لكن الرجل الطيب لم يستمع أبدًا، وحدّقَ في وجه الضابط الظافر بإلحاح، وبينما كانت الريح تعصف في زغبه المُتناثر في قمّة جمجمته، قطّب وجهه المشجوج النحيف بصورة مُخيفة مُتغضّنة، وبصقَ بكلّ قوّته في وجه البروسيّ السمين.
أصاب العقيدَ الخبلُ وهمّ رافعًا يده؛ لكن العجوز بصق في وجهه مرّةً أخرى.
انتصبَ جميع الضُبّاط، وصاحوا في نفس واحد مُصدِرين أوامرهم العسكريّة الحازمة.
وفي أقل من دقيقة قام الجنود بلصق الرجل الطيب برباطة جأشه في مواجهة الجدار وأعدموه رميًا بالرصاص.
في حين كان العجوز يرسل ابتسامات إلى ابنه الأكبر «جان» وإلى كنته وحفيديه الذين كانوا ينظرون إليه مُنبَهرينَ بشغفٍ شديدٍ.
”” “” “”” “” “” “” “” “” “” “” “” “” “” “”
تمّت الترجمة بحمد الله وتوفيقه.
مساء الأحد 5 من مارس سنة 2023
التعليقات مغلقة.