ولادة .. “خاطرة” … بقلم عبدالرحيم خير
ولادة
من منا لم يفكر يوما بأماكن يراها لأول مرة يظن أنه يعرفها تمام المعرفة؟! مَنْ منّا لمْ يود يوما لو نسي ماضيه كأنه لم يكن؟! مَن منّا لم يحلم بعد كل خيبة وانكسار لو استطاع محو ذاكرته فتعود بيضاء ناصعة ليتجاوزَ آلامه ويكمل الطريق؟
مَن منّا لم يود ساعةَ فرحٍ وسعادة ـ لم يجربها من قبل ـ أن تصبحَ الفرحة ميلادا يؤرّخ لحياته؛ فيرددُ بحماسٍ وانتشاء
“كأنني ولدت اليوم ..!”؟
مَن منّا لم يقل لنفسه ذات حزنٍ
ـ هربا من الذكريات ـ “ليتني ولدت اليوم” متمنِّيًا طيّ صفحة الماضي الحزين، بما فيه من ألم وحسرة وخيبة وانكسار.
مَنْ منّا لَم يفكر ذات فرح أن يكتب لنفسه ميلادا جديدا، يُحلقُ عاليا وقد منحته السعادة جناحين يطيرُ بهما في سماء الفرحة وهو يؤرخ لحظة الميلاد الجديد، يَودّ لو يُسمع الناس جميعا ليشاركوه فرحته فيصرخ بأعلى صوته قائلا:
“إنني ولدت اليوم”
من منّا لم يفكر أن ينسلخ من جلده؛ ليجدّدَ حياته ويَستعِيد نشاطه، ليعيش الولادة من جديد، بعد مخاض عسير وصراع مرير مع منغصات العيش، وفتن الزمان، وتحدّيات الحياة..!
الولادة مشكلتنا جميعا، مشكلة جيل من المقهورين المهمشين، جيل من المعلّقين على هامش الأيام، خارج إطار السعادة وبراويز الأفراح والآمال، مشكلة أصحاب الخيال الواسع الملهمين، في مجتمع يضجّ بالمفلسين من ذوي الفكر العقيم والخيال المحدود؛ الذين يظنون كل مختلف مريض، وكل صاحب خيال مسحور ومجنون.
مجتمع قلة فيه أولئك المؤمنين برحابة الفكر وسعة الخيال، الذين يرون الولادة لا تقتصر على الأمهات، بل إن كل ما في الحياة ولادة؛ فشروق الشمس ولادة، وظهور النجوم ولادة، واكتمال القمر ولادة، بل وكل صراع ينتصر فيه الإنسان ولادة ..!
كما أن تجارب الحياة ولادة؛ ألا يقولون عن الأفكار والآراء والخبرات إنها ولدت من رحم التجارب؟!
إن كل جميل في الحياة هو ولادة؛ فكل فرحة ولادة، وكل نجاح ولادة، وكل إنجاز ولادة يُؤرّخُ لحياةٍ وميلاد جديد..!
من منا لم يولد مرتين؟!
نعم.. جميعنا ولدنا مرتين، ولادة أولى من رحم الأمّهات، وأخرى من رحم الحياة..!
الحياة المتسلّطة بقسوتها وأكدارها، والمعادية بروتينها وأحداثها للضعفاء المقهورين، حياة قاسية قَلَّ من يؤمن فيها بِحقِّ كلّ إنسان في أن يولد مرَّتين، وأن يعيش حياتين؛ حياة واقعية يرفضها عقله وقلبه؛ لأنه فقد فيها الرَّاحة والهدوء والأمان، وأخرى خيالية صنعها باختياره؛ فأحبَّ أيّامها وتفاصيلها وحكاياتها.
حياة صنعها بنفسه ولنفسه، يهرعُ إليها هربًا من واقعه، فيكون الخيال صاحبه، والتأمّل رفيقه، حياة يهرب إليها من الجميع إلى نفسه، فتكون ملاذه، الذي يختبئ فيه من بؤس العالم وقسوة الظُّروف ومرّ الحياة، يجد في العزلة روحه التي تاهت في دروب الحياة، يبثُّها آلامه ويشكو همومه، ويحكي أسراره التي يخفيها عن الجميع.
يسرد كل حكاياته العصيّة على الفهم والتصديق، يشاركها همومه وأحزانه دون خوف، فتكون العزلة حياة وولادة جديدة؛ حياة لا يحتاج فيها الإنسان لأحد إلا نفسه، تلك التي تتقبل عيوبه وتعرف ذنوبه وتطيّب خاطره، وتلملم شتاته وتواسيه؛ فيعود من عزلته- كأنه ولد الآن- كأنّ الخُلوة مخاض والعزلة ولادة يعود بعدهما الإنسان ليخالط الناس من جديد ولسان حاله يرددُ بنغمة هادئة لوّنتها الأفراح والأحزان:
“كأنني ولدت اليوم ..!”
التعليقات مغلقة.